الانتفاضة الثالثة

تاريخ النشر: 08 يوليو 2014 - 09:53 GMT
البوابة
البوابة

هاني المصري

هل ما يجري في الأرض المحتلة منذ عمليّة الخليل من مواجهات متنوعة للعدوان والعقوبات الجماعيّة انتفاضة أو مقدمة لانتفاضة، أم استمرار للمواجهات الممتدة طوال السنوات الماضية؟

ما يجري حتى الآن من مواجهات، على أهميته، ليس انتفاضة، علماً أن العدوان الإسرائيلي وصل إلى معدلات غير مسبوقة، وكان أقل منه بكثير يؤدي إلى انتفاضة في الماضي، وإنما يمكن وصفه بمواجهات قد تتصاعد إلى ما يشبه الانتفاضة إذا استكملت شروطها، وبعض شروط اندلاع الانتفاضة متوفر في هذه الحالة، فيما بعضها الآخر غير متوفر.

ويدفع نحو تحول المواجهات إلى انتفاضة فقدان الأفق السياسي، وأي أمل بالتوصل إلى اتفاق ينهي الاحتلال ويحقق السيادة والعودة وتقرير المصير عن طريق المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركية، وإثبات حسن النيات والجدارة وبناء مؤسسات الدولة تحت الاحتلال، بعيدًا عن مرجعيّة تتضمن الحقوق الفلسطينيّة، ولو بالحد الأدنى، إضافة إلى معاناة آلاف الأسرى، وتدهور الوضع المعيشي لأغلبيّة الفلسطينيين الرازحين تحت الاحتلال، والتمييز العنصري الذي يطال الفلسطينيين في الداخل وفي الأراضي المحتلة العام 1967، وترسيخه باستمرار من خلال إقرار سلسلة لا تنتهي من القوانين العنصريّة.

أما ما يحول دون اندلاع الانتفاضة حتى الآن، فهو أن المشروع الوطني الفلسطيني لم يعد واضحًا: هل هو تحرير فلسطين والعودة، أم الاستقلال والعودة وتقرير المصير، أم إقامة دولة فلسطينيّة ضمن الأراضي المحتلة العام 1967، أم إقامة دولة واحدة لكل مواطنيها أو ثنائيّة القوميّة؟

كما أنّ القيادة الفلسطينيّة، وتحديدًا الرئيس أبو مازن، لا تؤمن بضرورة الانتفاضة وتعتبرها مدمرة، والسلطة تسعى جاهدة لمنعها وترى أن لا بديل عن خيار المفاوضات الثنائيّة. وكلما فشلت، كان البديل عنها مزيداً من المفاوضات، وإذا واجهت فشلاً جديدًا تم اللجوء إلى خيارات أخرى، مثل المقاومة الشعبيّة والمقاطعة والتوجه إلى الأمم المتحدة والمصالحة، بشكل انتقائي ومحدود ومؤقت، من أجل الضغط التكتيكي لاستئناف المفاوضات أو لتحسين شروطها، وفي ظل خشية غير مفهومة من تحوّلها إلى خيارات إستراتيجيّة جديدة.

تأسيسًا على ما سبق، فإن ما أدى إلى تأخر الانتفاضة، ويمكن أن يؤدي إلى تأخرها أكثر، يتمثل بغياب القيادة الواحدة والمشروع الوطني المشترك بعد تآكل المشروع الوطني إثر سلسلة لا تنتهي من التنازلات والسياسات الفاشلة، وتحوّل السلطة إلى وكيل أمني للاحتلال في ظل حكم ذاتي من دون سقف زمني، بعد أن انتهى السقف الزمني المحدد في "اتفاق أوسلو" منذ أيار 1999 من دون وقف هذا المسار المدمر، فضلاً عن غياب المؤسسة الجامعة في ظل حالة الشلل التي تعيشها منظمة التحرير، وترهل وتدهور دور الأحزاب والنقابات والاتحادات الشعبيّة ومختلف مؤسسات المجتمع المدني لمصلحة عناصر وشرائح ومؤسسات راكمت ثروة ونفوذًا داخل السلطة وخارجها.

كل ما سبق ساهم في إيجاد شرائح تحصل على دخل مرتفع وزاد الهوة بين أفراد الشعب الفلسطيني، بين طبقات من أصحاب الملايين والرواتب العالية التي ينشأ لها مصلحة برفض الانتفاضة للحفاظ على وضعها وامتيازاتها وطبقات فقيرة تزداد فقرًا من دون أدوات فاعلة تدافع بها عن مصالحها، وفي ظل سلطة تعتمد على المساعدات الخارجيّة المشروطة؛ لضمان بقائها رهينة لعمليّة "سلام" زائفة، تستخدم كغطاء لاستمرار الاحتلال، ولقطع الطريق على اعتماد الفلسطينيين أي خيارات إستراتيجيّة جديدة.

لنا أن نضيف إلى ما تقدم التأثير الكبير للانقسام في منع اندلاع انتفاضة. فالانقسام لم ينته بالرغم من تشكيل حكومة واحدة، لأنها لم تسعَ للتغيير ولا تستطيع تغيير واقع الانقسام في ظل المعطيات القائمة، وأهمها القواعد التي تحكم حوار واتفاق المصالحة وغياب الإرادة السياسيّة لإنهائه.

إن الانقسام عمّق الخلاف بين معسكر ينادي باعتماد الانتفاضة المسلحة ويضع تعارضًا عمليًا بينها وبين أشكال النضال الأخرى، ومعسكر يعتبر أن الانتفاضة دمرتنا ويرفض الاقتناع بأن طريق «أوسلو» لا بد وأن ينتهي بعد أن أوصلنا إلى الكارثة، ومعسكر ثالث يركز على اعتماد الانتفاضة الشعبيّة، ولكنه لا يستبعد المقاومة المسلحة، ويرى بسبب الاختلال الفادح في ميزان القوى والأوضاع العربيّة والإقليميّة والدوليّة أن الشكل الرئيسي للمقاومة ينبغي أن يكون شعبياً، أما المقاومة المسلحة فيجب أن تستخدم في أضيق الحدود، وتكون للدفاع عن النفس في مواجهة اعتداءات المستوطنين أو لصد عدوان أو اجتياح لقطاع غزة.

إن ما يساهم أيضًا في عدم اندلاع انتفاضة شعبيّة عارمة ومستمرة أن المكاسب التي حققتها الانتفاضات السابقة أقل بكثير من الآمال والتضحيات والمعاناة التي قدمها الشعب الفلسطيني، لأنها تعرضت لتوظيفها في حل سياسي لم تنضج شروطه، فانتهينا إلى توقيع "اتفاق أوسلو" بعد الانتفاضة الاًولى العظيمة، وإلى تكريسه مجددًا بعد الانتفاضة الثانيّة المغدورة.

الشعب الفلسطيني بحاجة إلى جواب مقنع حول: لماذا لم ينتصر حتى الآن بالرغم من ثوراته وانتفاضاته، ولماذا انتهت إلى الفوضى والفلتان الأمني؟ وعندما يصل إلى جواب يفتح له طريق الانتصار ويحول دون انزلاقها إلى الفوضى، سينخرط بشكل أكبر في الانتفاضة الثالثة الآتية عاجلًا أم آجلًا، والأفضل ألا تأتي إلا بعد حوار وطني فلسطيني يستهدف مراجعة التجارب السابقة واستخلاص الدروس والعبر، وبلورة رؤية ومشروع وطني وإستراتيجيّات جديدة في سياق العمل من أجل إعادة بناء الحركة الوطنيّة والتمثيل ومنظمة التحرير، على أسس تضمن أوسع تمثيل ومشاركة لمختلف ألوان الطيف السياسي، وفي ظل إدراك أن غياب العمق العربي الإستراتيجي الضروري لدعم الانتفاضة لا يساعد على توفير شروط انتصارها.

إن الاختلال في ميزان القوى وتعنت الحكومة الإسرائيليّة واتجاه إسرائيل الحاسم نحو التطرف من دون ضغط فاعل يدل على أنه لا توجد تسوية وطنيّة في الأفق، ما يفرض على الشعب الفلسطيني أن يضع نضالاته على هذا الأساس، بحيث تكون المواجهة على شكل موجات، واحدة تلو أخرى، من دون انقطاع طويل، ومن دون التحول إلى انتفاضة شاملة إلى حين توفر الروافع والشروط الكفيلة بانتصارها.

يمكن أن تركز المواجهات في كل مرة على قضيّة واحدة من أجل تحقيقها، مثلما حدث الآن في المواجهات حول القدس والأسرى والاستيطان، مع تنظيم أكبر وحشد أوسع وإصرار عنيد على تحقيق الهدف.

من خلال هذه المواجهة المستمرة، تظهر إبداعات وأشكال نضاليّة جديدة تستطيع أن تجمع بين مقاومة الاحتلال واستمرار الصمود والحياة في نفس الوقت، وتنبثق قيادات وقوى وحركات اجتماعيّة جديدة تستطيع قيادة الانتفاضة القادمة على طريق الانتصار.

إن الانتفاضة عمل جماعي إبداعي منظم، وهي بحاجة إلى هدف ناظم كبير قابل للتحقيق يستحق النضال من أجله ضمن مشروع وطني شامل، وإلى مؤسسة جامعة وقيادة وطنيّة موحدة لقوى الشعب، وإلى تنظيم لمختلف طاقاته وكفاءاته، واعتماد اقتصاد قادر على الصمود والتكيف والاستمرار تحت الاحتلال.

نقلا عن السفير اللبنانية