بدا الواقع السياسي العربي بُعيد تحلل العالم العربي من قماط الاستعمار الأوروبي، الذي كبَّد الشعوب العربية خسائر فادحة في الأنفس والأموال من أجل الحصول على الاستقلال هشاً، يخضع إلى عمليات اختبار لم تكن تخلو من العنف تحت مظلة التسابق الحثيث على الكراسي، حتى بات صفة ملازمة لهذا التحول.
لم تكن هذه الضريبة المدفوعة سلفاً لتمنع بعض ذوي القوة من العسكر لاستغلال الفرصة المتاحة للاستيلاء على العروش الفارغة، ضاربين بإرادة الشعوب عرض الحائط، وكان الحظ دائماً مع الأقوى والأشرس، لذلك كانت اللعبة برمتها تدار من داخل أروقتهم، لم يكن ليحالف الإسلام السياسي الحظ بمعزل عن المنهجية الديموقراطية الحديثة في العالم العربي، الموسومة بتبعاتها العلمانية وقيمها التي حاول عدد من الزعماء العرب تأكيدها عبر خطاباتهم المعلنة، بطرق استعراضية يشوبها النفاق السياسي لقطاعات عريضة من المجتمعات الإسلامية؛ لتحظى بشيء من القبول والدعم الذي يؤكد صدقيتها.
جازفت على حذر مشوب بالتوجس بقبول إنشاء البرلمانات ذات التعددية الحزبية القائمة على الانتخاب، وقد عثرت بعض الجماعات ذات المصالح المشترك فرصة ناجزة لتمثيل نفسها، فكانت البوابة العريضة والواسعة لكل القوى والأحزاب الإسلامية مكتملة البنية واضحة الرؤية، فلولا هذا النفاق السياسي المكشوف لم يكن يسمح للإخوان المسلمين -مثلاً- في مصر والأردن، وحزب النهضة في تونس وجبهة الإنقاذ في الجزائر بتمرير مبادئها بين أوساط المجتمعات المتعطشة إلى قيادات جديدة ومختلفة تتصل بالقيم الإلهية ذات العدالة المطلقة، حدث كل هذا بعدما فقدت الشعوب المنتظرة التي لم يكن يسعها سوى الفرجة والاستسلام إلى الواقع.
بصيص الأمل مع تقادم الأعوام من دون تحقيق تقدم يذكر على صعيد العدالة والحرية والمساواة الموعودين بها، والتي ستخرجهم من مأزق الاستبداد والقمع، ناهيك عن شعارات النهضة والتقدم، هذا بدوره كدس في قلوبهم الأحقاد المسكوت عنها، فلم يجدوا صوتاً يصل إليهم ويريحهم من كل هذا العنت سوى صوت يتشبث بالقيم الإسلامية، ويحظ الناس عليها ليس على طريقة صوفية أو سلفية محضة، بل صوت معبأ بالحركة والتحريض لا تتخلى عنه خطب ومواعظ الجماعات الإسلامية على مختلف مناهجها وتقسيماتها.
ولكي تسلخ هذه الجماعات عن جسدها ما ألحقته به من أشواك العنت؛ جراء استبداد وقمع السياسي المراوح بين المصادرة والقوة الرادعة بشكلها الوحشي المباشر القائم على اختلاق الأعذار القمعية لتصرفاتها الخارجة عن منطق العقل، وهو ما دفع بالشعوب إلى قبول تحدي التغيير، حتى باتت هذه الجماعات تعمل بدأب؛ لإكمال بنيتها التحتية على أرض الواقع الاجتماعي؛ لتتخذ منها قوة تستطيع بها أولاً: حمل صوتها إلى قبة البرلمان كما تمكنها. ثانياً: حماية مكتسباتها بالالتفاف على نفسها وتأكيد وجودها. ثالثاً: تجعلها قادرة على المواجهة المحتملة في أي وقت، لم يستطع السياسي المنافق استيعاب التحولات السريعة، كما لم يقدر عقله المنحصر بأنانيته المفرطة على فهم سر التكتل الكبير لهذه الجماعات، كما لم يدر بخلده أن تعطل القيم الأخلاقية وعزلها عن المنهج السياسي الداخلي أودى به أخيراً إلى هذا المنحدر الوعر، لم يقدر بغبائه أن صوت الإنسان البسيط المهمش الذي بات بشكل أو بآخر بمعزل عن الدوائر السياسية أعلى من صوته، عند هذا المنعطف حدثت القطيعة التصالحية بينهما؛ لتفضي في النهاية إلى اللجوء إلى ضرورة التغيير بالقوة التي تحتمها طبيعة التحول في ميزان القوى (السياسي-الشعبوي-الإسلاموي).
تحركت الجماهير باتجاه الجماعات الإسلامية السياسية، كنموذج مختلف لا يتحدث عن نفسه بقدر حديثه على الدوام باسم الله، ولكي ينفي عنه ارتباطه بالسياسي القومي أو العلماني البغيض أكد قطيعته للقيم العلمانية الموصومة بالكفر، جاء هذا الرفض خلاصاً لكل أشكالها، بدءاً من مفهوم الدولة وانتهاءً بالديموقراطية، تأكيداً على براءته واستقلاليته وابتعاده عن تجاذبات السياسات القمعية، مستعيضاً عنها بقيم ذات معانٍ أصولية عميقة كالأمة والشورى والشريعة، وهذا بدوره رفع من قابلية الانتقال من العمل الإسلامي البسيط، المتمثل في الأخلاق والقيم والسلوك إلى العمل المركب المتمثل في العلاقات المعقدة؛ ليحمل ثقل عمل إسلاموي مؤسس على إرادة قوية مشمولة بخطط للعمل بكل أبعادة الإستراتيجية والتكتيكية، مستخدماً آليات السياسة القائمة على فكرة الاستقطاب الديماغوجي المفرط، باستخدام الرصيد الهائل من مخاوف الناس، المتمثلة بالخوف من السياسات القمعية القائمة، والخوف مما تستورده الخطابات الإسلاموية من مرجعيات غيبية تثير الرعب في نفوس جماهيريها العريضة المذعنة لها المحتمية بها.
لذلك تحظى بقبول فوري وجازم، ونتيجة لهذه التعبئة الإسلاموية، تشكلت على مر حقب أربع، ذهنية المقاومة ليس للمستعمر القريب، بل لأشكال وبنى المستعمر البعيد، الداعم لأنصاب السياسات القمعية، جاء هذا التشكل على أساس مرجعي ديني متين يتوافق مع روحانيات وعقليات كثير من الشباب، التي اكتسبت واقعياً خبرات متينة ومعقدة في التنظيم والتكتل والتجنيد والتضحية والقتال، حتى بدا الموت إزاء الرسالة التي تغذت بها عقولهم مساويةً تماماً للحياة المشروطة بالكرامة، وليس أمامنا اليوم سوى فرصة واحدة فقط لإيقاف هذا التمدد الأسود، هو العمل على إعادة النظر في منظوماتنا الدينية والفكرية والسياسية، وجعلها أكثر قابلية للحياة منها للموت، وتمكين الناس من ممارسة حياتهم بحرية بلا وسائط أو وصاية أو معوقات، وإشراكهم في مقوماتها بسواسية، وليكن هذا سريعاً قبل فوات الأوان.. كيف؟ أترك الإجابة لكم.
محمد المزيني
اقرأ أيضا: