تعتبر النساء من ضحايا الحروب، لكنهنّ لسنّ ضحايا فحسب. اختزالهن بصورة الأجساد المستباحة والمضطهدة، المسيطر عليها من رجال، في سوريا وفي بلدان النزوح، فيها كثير من التبسيط والتنميط. لا نفي لوجود الاستغلال، إنما المشكلة تكمن في تهميش دور النساء في تجارب النزوح. في ظل غياب الزوج أو عدم قدرته على العمل، تكافح النساء لتلبية الحاجات اليومية لأسرهن. وبذلك، يضطلعن بأدوار غير تقليدية، كالعمل وإعالة الأسر. ما أنتج شعوراً بـ«الاستقلالية» عند بعضهن، انعكس أحياناً على علاقات القوة التي تحكم الأسرة. وأدت التغيرّات تلك إلى ردود فعل عنيفة أحياناً من جانب الزوج، نتيجة فقدان «امتيازاته» أو تزعزعها، لتنتقل «الحرب» من محاور القتال إلى داخل الأسر النازحة.
حوّلت ظروف النزوح أم جهاد من «ست بيت» إلى معيلة أسرة من ستة أولاد. لطالما رغبت في التحرّر من سلطة زوجها وتعسفه في مخيم اليرموك في دمشق، لكنها لم تقدم على خطوة الطلاق سوى في مخيم شاتيلا، حيث نزحت مع أسرتها.
الابتسامة لا تفارق وجهها، تجلس على الأرض، وتحكي قصة نزوحها بشيء من الفكاهة لا تخفي حزناً عميقاً: «من لحظة لوصلنا إلى شاتيلا، زوجي ما بيعمّل شي. أم جهاد تطبخ وتنظف وتعتني بالأولاد وتنفق على المنزل وتبحث عن مساعدات. الله وكيلك كل المسؤوليات على ضهري. هو ينام ويأمر ويحقق معي. أكثر من هيك، مش طالع من أمره شي».
أصيب ابنها، وهو في الخامسة عشرة، بشظايا قذيفة اخترقت رأسه في مخيم اليرموك. وجدت نفسها وحيدةً تبحث بين الجمعيات عن جهة تتكفّل بإجراء عمليته الجراحية. ترتشف قهوتها، وتكمل الحديث: «كنت اتنقل مشي تحت الشمس بين المناطق، لأنه ما كان معي ادفع مواصلات. وهو (زوجها) ولا على قلبه همّ».
وجدت عملاً في إحدى الجمعيات التي افتتحت مشغلاً للتطريز في شاتيلا، بهدف توفير دخل متواضع للنازحات السوريات. «عرضوا علي شغل، وصرت اداوم بالمشغل». وتكفلت الجمعية في إيجار منزلها، وهو 300 دولار. «مستحيل يروح على الجمعيات يطلب مساعدات. أنا بروح. هو نفسه كتير عزيزة»، تقول ساخرةً وتضحك.
أصبحت تعمل داخل المنزل وخارجه، ولم تعد قادرةً على تحمّل ضغوط زوجها وعنفه المتزايد. «المسؤوليات كلها علي، وبدو كون بخدمته طول الوقت. صار يسيطر علينا أكثر من الأول. كرمال هيك طلبت الطلاق. وهلق مرتاحة كتير نفسياً، رغم التعب الجسدي»، تقول أم جهاد محاولة تفسير عدائية زوجها وتسلطه، بعباراتها البسيطة، للتعويض عن شعوره بـ«فقدان الذكورة».
إبنها الأصغر (أربعة عشر عاماً) ترك المدرسة للعمل، اضطرت للقبول بذلك. بناتها الثلاث يعملن أيضاً بأجور منخفضة لمشاركتها أعباء الأسرة. تحكي أن زوج ابنتها كان يرفض أن تذهب إلى منزل أهلها وحيدةً، يرافقها أينما ذهبت. «بسوريا كان عيب البنت تشتغل وتنتقل لوحدها، هلق غير شي».
استفادت أم جهاد من ظروف النزوح لتفرض واقعاً جديداً لطالما أرادته لنفسها. تجربتها لا تبدو استثنائية بين النازحين، وإن كان تبدّل الأدوار التقليدية لا يؤدي دائماً إلى مفاوضة الحقوق داخل الأسرة. هذا ما أكدته دراسة «أوضاع متحولة: تغيير أدوار النوع الاجتماعي بين اللاجئين واللاجئات» («أوكسفام» و«مؤسسة أبعاد»). إن «تغيير أدوار النوع الاجتماعي بين اللاجئين واللاجئات فاقم الضغوط في العديد من الحالات». فكثير من الرجال يشعرون بالعجز لعدم قدرتهم على الإنفاق على الأسرة، وحمايتها. وكثيرات من النساء يحرمن من الحصول على الموارد والخدمات التي تمكّنهن من القيام بأعمالهن المنزلية.
تراجع «امتيازات» الرجل داخل الأسرة أدى إلى «تعبير سلبي عن الذكورة، حيث زادت نسبة العنف ضد النساء والأطفال مع لجوء بعض الرجال للتنفيس عن إحباطهم، فأفرطوا في استخدام سلطتهم داخل الأسرة»، هذا ما أشار إليه التقرير. وهذا ما دفع أم جهاد، على الأرجح، إلى طلب الطلاق. لكن تجارب أخريات لم تكن في الايجابية نفسها.
تأثير محدود ومؤقت
منذ نزوحها إلى منطقة الرحاب في الضاحية الجنوبية لبيروت، عملت أمل (اسم مستعار) في حياكة «الكروشيه» في أحد مشاغل مخيم شاتيلا. تذمّر زوجها من تنقلها اليوميّ منفردةً بالرغم من حاجتهما إلى دخل إضافي، على محدوديته. الزوج يعمل مياوماً في ورشة بناء، لكن دخل أمل يبقى مهمّاً للإنفاق على أولادها الأربعة.
نفد صبره منذ بضعة أيام. أعاق سيرها وهي تفتح باب المنزل متوجهة إلى المشغل: «ما بقى بدي تروحي على الشغل. خلص!»، قالها بحزم. أمسكت بأيدي صغارها وأجابته بجرأة لم تألفها: «مو على كيفك»، وتابعت طريقها.
فوجئت أمل بنفسها، هي التي نشأت في ريف إدلب، تزوجت باكراً، وأُجبرت على الزواج من سلفها مكرهة بعد وفاة زوجها. خضعت كي «تستر» نفسها وتعيل أولادها.
لم تعد أمل النظر في «الأدوار». تؤمن أن دورها لا يتخطى عتبة المنزل. تبرّر سلوكها بـ«حكم الضرورة» لتلبية حاجات أسرتها. يؤلمها أن تفكر في زوجها الأول، وهي في سرير أخيه. «في إشيا كتير بتحرق قلبي وما بقدر احكي فيها»، تعبّر بصوت خافت وهي تسند رأس صغيرتها النائمة بين رجليها المطويتين على الحصيرة، بينما تُحوك «الكروشيه».
بدورها، مايا (اسم مستعار)، لم تعد تكترث لتذمّر زوجها وشتائمه اليوميّة. ترتدي حجابها وتخرج إلى وظيفتها كمربية أطفال في جمعية تهتم بالنازحين. «دير بالك على الأولاد، أنا رايحة على الشغل»، تقولها على عجل وتنصرف.
تجيب عن الأسئلة بخلق ضيق: «ما بيشتغل شي، لا بالبيت ولا برا. نايم طول النهار، بيشتغل نقاق!»، تلفظها بتهكّم. تحدقّ بفنجان القهوة وتفكّر في ما تقوله: «يمكن هو بحالة اكتئاب، وأخوه شهيد بسوريا، بس مش قادرة اتحمل الوضع».
يحز بنفسها أنهما فقدا الاحترام، الهشّ طبعاً، الذي كان يربطهما. «في سوريا كان يقضّيها مع نسوان، كنت اعرف. بس كان يشتغل ويهتم ببيته على الأقل. اليوم ما بقى في شي». تنفق اليوم على أسرتها وأولادها الستة الصغار. «جميعهم تركوا مدارسهم للأسف، وإبني (خمسة عشر عاماً) بيشتغل بملحمة بالليل ليساعدني».
تثقلها الأعباء المزدوجة، في وقت تحتاج فيه إلى من يسندها. كلما عادت من عملها، تجد مصيبةً في انتظارها. «بلاقي زوجي تارك الأولاد من دون أكل، لوحدهم بالشارع، ثيابهم متسخة».
يتحكّم زوجها بالراتب ويقرّر كيفية إنفاقه. «قديش مطلعة هيدا الشهر؟»، يردّد السؤال نفسه كلما عادت من عملها. ولا يخجل من اقتحام خصوصيتها، ونبّش حقيبتها وخزانتها وجيوب ثيابها. فيتأكّد أن تعبها لا يزال تحت سيطرته.
غالبية النازحات لا يتحكمن بدخلهن. حالة مايا، على فجاجتها، ليست فردية. تشير الدراسة إلى أنه «على الرغم من تحوّل الأدوار التقليدية، يحتفظ الرجال بالتحكم في داخل الأسرة، ويقررون كيفية الإنفاق».
وتساهم المنظمات المعنية بالنازحين في تكريس سيطرة الرجال على الموارد. إذ أعرب التقرير عن «قلق من عدم حصول النساء العازبات والأرامل والمطلقات على مساعدات نقدية، لتغطية تكاليف الإيجار والخدمات الصحية، بسبب استهداف المنظمات للرجال فقط، بوصفهم رؤوس الأسر». هكذا، وإن كانت سيطرة الرجال على الموارد تختصر على الدخل والممتلكات في أوقات السلم، فإنها تتعداها إلى احتكار مساعدات الإغاثة في أوقات الحرب.
«عودي إلى المطبخ»
تُفقد الحرب المرء حياته، أو الأمل بها، لكنها تخلق فرصاً من قلب المآسي وتجارب التهجير. قد تكتسب المرأة سلطةً أكبر داخل أسرتها جراء استقلاليتها المادية. إلا أن الأمر لا يعد تلقائياً، ويعتمد بشكل أساسي على إدراكها وقدرتها على إعادة المفاوضة على حقوقها.
أثبتت تجارب اللجوء السابقة، في الدول العربية والأفريقية على سبيل المثال، ظرفية «المكاسب» ومحدوديتها. وهنا، «عبارة عودي إلى المطبخ» (أي إلى أعمالك المنزلية) تبدو متكررة في سيناريو تجارب اللجوء المتشابهة، وحتى نضالات التحرّر الوطني والانتفاضات الشعبية.
ليس في الكلام نفيّ لأي عملية تغيير. إلا أن تبدّل الأدوار التقليدية لا يغيّر، بحّد ذاته، التقاليد والقيّم التي تقوم عليها العلاقات بين الجنسين. قد تضطلع النساء بمسؤوليات إضافية من دون أن تكتسب سلطة أكبر. تبدّل الأدوار قد يحدث تماشياً مع القيم التقليدية، أي من دون إعادة النظر، بالضرورة، بمفاهيم «الرجولة» و«الأنوثة» السائدة.
اللجوء يبدّل الأدوار بين الجنسين. فهل نشهد تغييراً جوهرياً أو سطحياً في القيم التي تحكم العلاقة بين الجنسين جرّاء النزوح؟ من المبكر الإجابة عن ذلك. أما التوقعات بأن تجارب النزوح تفتح الباب أمام فرص «تمكين المرأة» وزيادة استقلاليتها، فتحتاج إلى إعادة نظر.