ثلاث طبقات في مصر أم أكثر

تاريخ النشر: 15 كانون الثّاني / يناير 2022 - 06:09
ثلاث طبقات في مصر أم أكثر

ظل التقسيم الطبقي في مصر قائما على شريحتين أساسيتين، غنية وفقيرة، ثم تطور ودخلت معهما شريحة الطبقة الوسطى التي لعبت دورا في تشكيل الوجدان العام للدولة، وخرجت منها فئة تحملت جانبا كبيرا من التغيير على فترات مختلفة، والآن بدأ التوزيع الطبقي يتغير وخرجت من كل منها شرائح جديدة بما يصعّب حصرها.

أبدى مفكر عربي كبير زار القاهرة منذ عشر سنوات استغرابه مما رآه. فلم تعد مصر كما كانت تتشكل من شريحتين أو ثلاث. فقد رأى الرجل، على حد وصفه لي، أكثر من ذلك، بصورة لم يستطع معها التعرف على التوزيع الطبقي للشعب المصري.

حدثت تطورات كبيرة في السنوات العشر الماضية ضاعفت من صعوبة الفرز. فحد الفقر الذي بلغ في إحصائيات عام 2020 نحو 29.7 في المئة من تعداد سكان يتجاوز المئة مليون نسمة لا يعني أن هؤلاء فقط هم المعدمون، فالتغيرات السريعة داخل هذه النسبة يصعب حصرها، فمنها من يرتقي إلى أعلى ومن يهبط إلى أسفل.

ساعدت السياسات التي تتبناها الحكومة على توفير درجة من الحماية الاجتماعية لهؤلاء، غير أنها جاءت على شريحة أعلى دُرج على تسميتها الطبقة المتوسطة وهبطت منها فئة كبيرة وارتقت منها قلة، ما انعكس على مستوى التفاوت في الدخول.

من يشاهدون البذخ في الكثير من المنتجعات المصرية ويراقبون الإعلانات التي تخاطب سكانها يعتقدون أن البلاد تعوم على بحر من الرفاهية، ومن يدققون النظر في المناطق الفقيرة يخرجون بانطباعات قاتمة، وقد يغيب عن هؤلاء وهؤلاء أن هاتين الطبقتين تحويان داخلهما الكثير من الفروقات والتناقضات والمستويات.

ربما تكون هذه الظاهرة ليست حكرا على مصر وموجودة في العديد من الدول، لكن ما يميزها أن الحكومة تلعب دورا متعمدا في التباين الطبقي، ولم تعد المسألة متروكة للعرض والطلب والاجتهاد والتفوق والكسل، فالحكومة كأنها تتبنى طريقة ممنهجة في رفع طبقة وخفض أخرى، ما أسهم في زيادة التقسيم الطبقي لأسباب سياسية.

نجحت سياسات الحكومة في تطويق الطبقة الوسطى وإرهاق نسبة كبيرة من أفرادها اجتماعيا واقتصاديا كي لا يتبقى لهم وقت يتفرّغون فيه للمناكفة، وعليهم القبول بالواقع الراهن

يجد المراقب لتصورات البرامج الاجتماعية، وهي كبيرة ولافتة، أنها تستهدف الشريحة الدنيا أو المعدمة التي تجد تعاطفا اقتصاديا لافتا من الحكومة، وتحظى بعناية خاصة من قبل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي، وتمثل الكتلة الحرجة في المجتمع وتدفع على الدوام ضريبة كبيرة للإصلاحات الاقتصادية المتواصلة، ويمكن أن تصبح بركانا ينفجر في أيّ لحظة نتيجة الإرهاق المادي الذي تتعرض له.

يأتي التركيز عليها ومحاولة إنقاذها من الرغبة العارمة للحكومة لتحييدها وإبعادها عن شبح غضب محتمل، وهو ما وفر لها نسبة كبيرة من وسائل الدعم والحماية كي تعصمها من أيّ وسائل تحريض، ولا تصبح لقمة سائغة لمن يحاولون تأليب الشارع على النظام جراء الغلاء الفاحش الذي ضرب سلعا وخدمات كثيرة.

تمكن ملاحظة قواعد المنهجية في هذه السياسة من خلال الإهمال الذي تجده الطبقة الوسطى التي تآكلت شريحة كبيرة منها ودفعت ضريبة باهظة للإصلاحات الاقتصادية وبدا إنهاكها مقصودا، فهي توجه نسبة من دخولها للتعليم والمواصلات والمأكل والملبس ولا تستطيع فئة منها سد الفجوة بين عوائد أفرادها ومتطلباتهم الأساسية.

ينبثق استهداف هذه الطبقة من دواع خفية، جعلت البعض يلفتون النظر إلى ما يجري من تحولات. فلدى الحكومة المصرية قناعة بأن الطبقة الوسطى التي يتحصل أعضاؤها على مستوى جيد من التعليم ويملكون مستوى مناسبا من الدخل المادي تفرّخ النخب السياسية والثقافية والعلمية التي تمكنها من التأثير في مجريات الأحداث.

ويمثل جذبها إلى أسفل عبر تصرفات وممارسات تتبناها الحكومة خفضا في مستوى الوعي عند المنتمين إليها. فالفقراء لا يعنيهم قبول الأوضاع السياسية أو رفضها بقدر ما يعنيهم توفير الحد اللازم من وسائل المعيشة، وهو ما تفعله الحكومة عبر برامجها.

كما أن الأغنياء لا تستهويهم السياسة ومعاركها الكثيرة، طالما أن ثروتهم بعيدة عن القصف، وقد بدأت تتبلور ملامح هذا التوجه مؤخرا، وتكاد تنتهي ظاهرة تزاوج المال مع السلطة التي استمرت فترة طويلة، فالنظام يريد أن يتحكم في المفاصل السياسية والاقتصادية والاجتماعية ولا يترك مساحة لمناورات تمثل عبئا لاحقا عليه.

مهما بلغ ذكاء الحكومة في القبض على دفة المجتمع والتحركات الدائرة فيه لن تتمكن من السيطرة على مفاتيحه الرئيسية، فخارطة المصريين تحدث فيها تغيرات مستمرة

تشير هذه التصرفات إلى المزيد من التغيرات في المجتمع المصري وسوف تؤدي إلى توسيع نطاق الفرز الطبقي لأن السياسات التي تتبناها الحكومة مهما بلغت درجة إتقانها من الصعوبة أن تتمكن من الوصول إلى أهدافها كاملة في ظل الثورة الحاصلة في التكنولوجيا والدور الذي تلعبه مواقع التواصل الاجتماعي التي باتت أداة قوية في يد من يسعون للتغيير أو من يحركونهم.

تنطلق رغبة الحكومة في تطويق مكونات التغيير الذي يمكن أن تحدثه الطبقة الوسطى من رؤيتها بأن ما حدث في مصر قبيل نهاية عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك وسقوط نظامه بعد ذلك كان وليد رفاهية تمتعت بها هذه الطبقة ومنحتها دورا مؤثرا في الحراك السياسي الذي كاد يفضي إلى انهيار الدولة المصرية.

نجحت سياسات الحكومة في تطويق الطبقة الوسطى وإرهاق نسبة كبيرة من أفرادها اجتماعيا واقتصاديا كي لا يتبقى لهم وقت يتفرّغون فيه للمناكفة، وعليهم القبول بالواقع الراهن، اعتقادا بأن الحكومة أدرى بشؤون دنياهم، ما جعلها تستخدم مفردات خالية من الدسم السياسي وتسعى لإلغاء كل ما يدل على هذا المعنى من حياة المصريين.

يقود تغيير شكل التقسيم الطبقي وصعوبة حصره في مستويات ثلاثة لعدم القدرة على فهم المزاج العام. فمهما بلغ ذكاء الحكومة في القبض على دفة المجتمع والتحركات الدائرة فيه لن تتمكن من السيطرة على مفاتيحه الرئيسية، فخارطة المصريين تحدث فيها تغيرات مستمرة ويتواءم الناس مع تفاصيلها بما يمثل عائقا لتوقع ردود الأفعال.

تنطوي هذه الفرضية على توقعات بحدوث تحولات قد ترقى إلى درجة المفاجآت، لأن تشكيل وعي المجتمع وفقا لأهداف ممنهجة في دولة يتخطى سكانها المئة مليون يحتاج إلى حصافة تتجاوز دعم طبقة ضد أخرى أو خفض مستوى شريحة لصالح أخرى.

قد يحتاج المشهد الجديد وقتا لتبيّن خيوطه البيضاء والسوداء ففي النهاية هناك تدخلات في عملية التلاعب بالجين السياسي ربما تحمل نتائج سلبية، فخارطة هذا الجين تأتي من التفاعلات الجارية في المجتمع، والتلاعب فيها قد يحمل ارتدادات غير متوقعة.

محمد أبوالفضل - العرب

مواضيع ممكن أن تعجبك