د. بدران يفكك أزمة التعليم العربي في "عقول يحاصرها الضباب"

تاريخ النشر: 07 أبريل 2017 - 08:57 GMT
يرى بدران أن الثروة البشرية متاحة للجميع
يرى بدران أن الثروة البشرية متاحة للجميع

نادر رزق *

رغم مضيّ قرابة تسعة عقود على نشر الأمير شكيب أرسلان عام 1930 كتابه الأشهر "لماذا تأخر المسلمون ولماذا تقدم غيرهم؟" ما يزال هذا السؤال المشروع برسم الإجابة حتى اليوم: فلماذا لم تستطع أي دولة عربية أن تتحول إلى دولة صناعية رغم أن بدايات النهضة لدينا تعود إلى منتصف القرن التاسع عشر؟ أين ذهب التعليم وإلى أين يمضي الآن؟ ولماذا أخفق في أن يكون محركاً للارتقاء والتقدم وإطلاق طاقات الإبداع؟ والمساهمة في بناء الشخصية الوطنية والإنسانية والعقل العلمي والرؤية المعاصرة؟ وهو ما يحاول المفكر الأردني إبراهيم بدران الإجابة عنه في كتابه "عقول يحاصرها الضباب: أزمة التعليم في المجتمع العربي" الذي صدر مؤخراً عن دار الشروق برام الله.

يتكون الكتاب، الذي يقع في 496 صفحة، من سبعة فصول: الحالة العربية.. أزمات تتجدد، الأزمة المجتمعية، المفاصل الهشة، سلطة الحكم أو بناء الدولة، المرأة، الجغرافيا والبيئة، الثورة الصناعية والتعليم. واتّبع فيه المؤلف منهجاً دقيقاً قدم فيه قراءة مستفيضة للواقع العربي مع استدلالات علمية على كل ما ذهب إليه من حلول معززة بـ 32 جدولاً إحصائياً ومجموعة من الأشكال البيانية تعكس عوامل النجاح لدى الدول المتقدمة من خلال لغة رقمية مقارنة متجنباً الأسلوب الوعظي أو النظري.

في الفصل الأول يرى بدران أن الثروة البشرية متاحة للجميع ويستطيع الإنسان مع حسن الإدارة والاستثمار التفوق بها على الثروات الطبيعية من خلال تصنيعها وتطويرها واستثمارها؛ وهذا هو الفرق بين "الحضارة والثقافة" و"صنع التقدم والحديث عنه"، وبين صنع مهندس حقيقي ودارس للهندسة. "فالاستغراق الكلامي أو "الخطاب التثاقفي" أو خطاب المثقفين للمثقفين دون إنجاز حضاري حقيقي وجديد يشارك فيه المجتمع على أرض الواقع ليس ذا قيمة على الصعيد المجتمعي، وهو بالنسبة للأمم دوران في فراغ التاريخ وابتعاد غير مقصود عن تحديات الواقع".

ويختتم الفصل بأرقام صادمة نقرأ فيها أن متوسط نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي في مصر عام 1955 كان مساوياً لنظيره في اليابان، ونصيب الفرد في كوريا عام 1960 كان مساوياً لنظيره في السودان، لنصل في العام 2013 إلى 6500 دولار للفرد المصري مقابل 36650 للياباني، و4500 دولار للفرد السوداني مقابل 33790 للفرد في كوريا!

الفصل الثاني يبدأ بمقولة لإلبرت أينشتاين: "التعليم هو ما يتبقى لدى المتعلم بعد أن ينسى كل شيء تعلمه في المدرسة" يلخص بها المؤلف الإجابة عن سؤال: "ما هو التعليم؟" الذي يرى أن أهدافه تتحقق بالاستناد إلى مفاصل ارتكازية عبر ثلاث دوائر رئيسية: المهارات، التعلم، القيم. ويتمثل التحدي الحضاري التاريخي للتعليم في كفاءة منظومته وقدرتها على الاستمرار والتحمل والتجاوب مع المتغيرات والتطور مع الزمن.

وفي هذا الصدد يحمل بدران على ما تقوم به المجتمعات العربية من نقل مناهجها التعليمية عن الدول المتقدمة نقلاً سطحياً أو شكلياً دون الأعماق العقلية والفكرية والفلسفية التي تراعي الأهداف الوطنية والتحديثية، فضلاً عن تواضع الإنفاق على البحث العلمي بمعدل لا يزيد على 25 دولاراً للفرد سنوياً في حين أنه وصل في كوريا الجنوبية قبل سبع سنوات إلى 1308 دولارات وفي إسرائيل 1154!

ويخلص بدران من تجارب الدول المتقدمة التي نهضت من كبواتها كالولايات المتحدة بعد الكساد الكبير، واليابان بعد هزيمتها في الحرب العالمية الثانية، إلى أن المنظومة العربية تفتقد بشكل أساسي إلى: "صدمة الحدث" لدى إدارات الدولة وآليات التصحيح عند كل منعطف سياسي أو اقتصادي أو اجتماعي والذي غالباً ما يكون بطيئاً ومتقطعاً ومتأخراً ومتردداً.

يعالج الفصل الثالث المفاصل الهشة للعقلية العربية المعاصرة التي غلبت عليها فلسفة "الاعتماد على الغير" والتعايش مع حالة التخلف الذي يعد من أخطر الظواهر التي تؤثر سلباً في المجتمعات المعاصرة وتحبط كل محاولة للتغيير والإصلاح، ومفاقمة عدم الاكتراث بالعلم الذي يتغذى من: عدم الشعور بحالة التخلف، الاستبداد، ضعف الإنتاج السلعي، الموقف التقليدي المتوارث والمتشكك في العلم والفكر والعقل والفلسفة، فضلاً عن التركيز التقليدي على النص والتمسك بحرفيته، مستشهداً بدران على ذلك بالاعتقاد بكمال اللغة العربية وتمام نضجها قبل قرون من انطلاق نظامي العلم والتكنولوجيا الحديثين، مما رتب "لغة علمية غامضة" جعلت المقولة العلمية والعملية والتكنولوجية والأداة الإنتاجية في العقل العربي بعيدة عن الضبط والتحديد حتى اليوم.

في نهاية الفصل يفرد بدران حيزاً معتبراً لمكانة الفنون والفلسفة ودورهما في نهضة العقل والارتقاء به وإشكالية التراث الذي ما يزال "نقطة جذب" لكثير من المفكرين والمثقفين المعاصرين، منتقداً إقحام الفتاوى والآراء الفقهية في كل مناحي الحياة وتكرار ذلك جيلاً بعد جيل في حين أن "استيراد التراث عبر التاريخ" أعلى كلفة وأقل كفاءة من استيراد تجارب الدولة المتقدمة التي لم تدخل نفسها لمئات السنين في معركة "الأصالة والمعاصرة" كما فعلنا.

في الفصل الرابع يعالج بدران موضوع "الوطن والمواطن والدولة" الذي يعد من أكثر المسائل التي عانت في المنطقة العربية من الإخفاق والفشل، والغموض والهلامية بل والتشكيك والتصغير والتشويه في العقل العربي ولدى القوى السياسية على نحو عفوي أو متعمد يحدوها "الحدوث الفوري للأشياء وليس إلى سيرورة التحول للوصول إلى ذات الأشياء"، وذلك ما وقعت فيه الأحزاب القومية العربية باقترافها خطأين رئيسيين؛ أثّرا تأثيراً هائلاً على مستقبل الأقطار العربية وشعوبها؛ أولهما: افتراض سهولة إنشاء دولة عربية موحدة وإمكانية إدارتها وتطوير مؤسساتها والمحافظة على تماسكها في ظروف اقتصادية ودولية ومجتمعية معقدة وهذا نابع من عدم التمييز النظري والعملي بين الحكم والسلطة من جهة، وبين الدولة ومؤسساتها من جهة أحرى. أما الخطأ الثاني فهو إغفال وجود "مكونات" أو فئات مجتمعية كبيرة من المواطنين غير العرب بالمفهوم الاجتماعي والثقافي والعرقي.

وفي هذا السياق يذهب بدران إلى أن حالتي الديمقراطية وحقوق الإنسان تؤثران تأثيراً واضحاً في فلسفة التعليم وصياغة مناهجه وخاصة في الإنسانيات التي لها الدور الأكبر في تكوين شخصية المتعلم وتعود لتنعكس على العلوم الطبيعية والتطبيقية، منتقداً ما أسماه "دعوى الخصوصية السلبية" التي يروج لها كثير من المحافظين والسلفيين وبعض المثقفين والسلطات الحاكمة بأن المجتمعات العربية والإسلامية تمتلك خصوصية تحول دون اللجوء إلى ما استخدمته الأمم الأخرى في نهضتها.

يعالج الفصل الخامس المكانة المحدودة التي تحتلها المرأة العربية في مؤشرات المشاركة: العمل وصنع القرار وبناء الثروة والمشاركة في الفكر والثقافة والعلوم ومنظمات المجتمع؛ حيث تظهر الإحصائيات الدولية علاقة طردية بين هذه المشاركات وتقدم المجتمعات.

وهو يعيد هذا الواقع إلى مجموعة من العوامل أهمها: التاريخ الاجتماعي، والتفسير السلفي المجحف بحقها، وتعثر حركات الإصلاح والتنوير، داعياً إلى الاستفادة من التجارب الأخرى إزاء تعليم المرأة؛ فمؤشر عدم المساواة بالنسبة للمرأة لا يزيد على 0،09 في سنغافورة و0،10 في كوريا مقابل 0،46 في المغرب و 0،488 في الأردن.

الفصل السادس يؤكد أن عامل الجغرافيا والبيئة لا يمكن أن يحول دون تطور نوعية التعليم؛ لأنه أمر يمكن التحكم به وتصميمه على النحو الصحيح ليتواءم مع معطيات البيئة، مستدركاً أن البيئة الطبيعية الجغرافية للمنطقة العربية تؤثر سلباً على التحصيل التعليمي وإنتاجية الأفراد والمجتمعات إذا تركت على حالها دون إدخال التعديلات الهندسية والتكنولوجية في التصاميم والمواد والتوقيت وأساليب التعلم والعمل، وهو العامل الذي لم يوله صانع القرار العربي في أغلب الأحيان أي أهمية عملية تذكر خاصة خارج المدن في الأرياف والبوادي.

في الفصل السابع والأخير يركز الكتاب على عوامل فشل الأقطار العربية في تحقيق الانتقال من عصر الاقتصاد التجاري الزراعي إلى العصر الصناعي الذي أثبتت الدول الناهضة والمتقدمة أنه يعتمد على الإنسان نفسه وإدارة الدولة ورؤية المستقبل، وليس الثروات الطبيعية أو مساحة البلدان أو أعداد سكانها. ويؤكد بدران أن "الثورة العلمية" على المستوى المجتمعي هي شرط مسبق للثورة الصناعية وليس مجرد ظهور عدد من العلماء أو المبدعين هنا أو هناك، وهو ما يقود إلى دور البيئة الحاضنة للعلم والاختراع التي تعد معضلة تاريخية ما تزال سائدة في جميع الأقطار العربية التي يطغى عليها إعلاء شأن الثقافة الأدبية على حساب العلمية كما كانت خلال العشرة قرون الماضية بعد انقضاء العصر الذهبي للحضارة العربية. وهو ما تأثرت به المناهج المدرسية والجامعية المعاصرة وكذلك الإعلام والثقافة الجماهيرية بل والنخبوية من خلال أسلوب القياس والنقل التي أوصلت على سبيل المثال العجز الغذائي العربي المعاصر إلى قرابة 80%.

ويختم بدران أن التعليم بكل مكوناته ومفرداته الظاهرة والخفية يمثل منظومة حية شديدة التفاعل مع البيئة المجتمعية بكل محتوياتها السياسية والثقافية والفكرية والمجتمعية والجغرافية والمناخية والعمرانية والاقتصادية، والمدرسة والمعهد والجامعة لا تمثل سوى رأس الجبل الجليدي فقط، وحتى يعطي التعليم أفضل النتائج فلا بد أن تكون البيئة المجتمعية متوافقة ومنسجمة مع العلم والتعليم والإبداع، وليس مضادة أو محبطة أو مفرغة لمحتويات التعليم من مضامينه، وهذا لا يكون إلا إذا توافرت الحرية والعقل العلمي والإرادة السياسية للتغيير.

يذكر أن الدكتور إبراهيم بدران شغل العديد من المناصب الحكومية والعلمية في الأردن من أبرزها تعيينه وزيراً للتربية والتعليم وأميناً عاماً لكل من وزارة الصناعة والتجارة ووزارة الطاقة، كما عمل مستشاراً لرئاسة الوزراء وعميداً لكلية الهندسة في جامعة فيلادلفيا التي ما يزال مستشاراً لرئيسها للعلاقات الدولية والمراكز العلمية، وهو عضو مجمع اللغة العربية الأردني. وصدر له 25 كتاباً منها: دراسات في العقلية العربية، التاريخ والتقدم في الوطن العربي، أفول الثقافة، النهضة وصراع البقاء، وهو يحمل درجة الدكتوراة في الهندسة الكهربائية.

*باحث أردني

عن صحيفة ذوات الفكرية