أكَّد الناقد والباحث د. عبدالله إبراهيم في كتابه الصادر عن المؤسسة العربية للنشر والتوزيع "السرد النسوي، الثقافة الأبوية، الهوية الأنثوية، والجسد"، أنَّ البحث في ظاهرة السرد النسوي يلزم بكشف الحاضنة الثقافية، التي منحته دلالة محددة في الأدب العربي الحديث، فقد صيغت هويته السردية، ممثلة بالنوع الروائي، استنادا إلى حضور أحد المكونات الثلاثة الآتية أو اندماجها معا فيه، وهي "نقد الثقافة الأبوية الذكورية، واقتراح رؤية انثوية للعالم، ثم الاحتفاء بالجسد الانثوي".
ورأى أنَّ تلك المكونات تشابكت من أجل بلورة مفهوم الرواية النسوية بما صارت تعرف بها، وللوصول إلى ذلك الهدف ينبغي الوقوف أولاً على خلفيات الفكر النسوي، وبيان المسار العام لأطروحاته، وسجالاته مع الفكر الأبوي، وتجلياته في كثير من مجالات الثقافة الإنسانية، فبدون ذلك يبدو التحليل السردي منقطعاً عن السياق الذي يطمح إليه هذا الكاتب.
وشدد إبراهيم على ضرورة التفريق بين نوع الكتابة السردية كما ينبغي التفريق بين "كتابة النساء"، "الكتابة النسوية"، فالأولى تتم بمنأى عن فرضية الرؤية الانثوية للعالم وللذات، إلا بما يتسرب منها دون قصد، وقد تماثل كتابة الرجال في الموضوعات والقضايا العامة، اما الثانية فتتقصد التعبير عن حال المرأة، استنادا الى تلك الرؤية في معاينتها للذات وللعالم، ثم نقد الثقافة الأبوية السائدة، وأخيرا اعتبار جسد المرأة مكونا جوهريا في الكتابة، بحيث يتم كل ذلك في إطار الفكر النسوي، ويستفيد من فرضياته وتصوراته ومقولاته، ويسعى الى بلورة مفاهيم انثوية من خلال السرد، وتفكيك النظام الأبوي بفضح عجزه.
ورأى أن السرد العربي الحديث شهد صعودا لافتا للرواية النسوية، ولم يحصل ذلك في معزل عن المكانة المتنامية للمرأة في الحياة الاجتماعية والثقافية، فقد جاء، فضلا عن كل ذلك، استجابة للوعي الانثوي الذي عرف طوال التاريخ استبعادا لا يمكن تجاهله، وتمييزا ضده يصعب إغفاله في المجالات كافة، فالآداب العربية القديمة شعرية وسردية، كانت تموج بصور المرأة- الجارية، التي اقتصر دورها على تقديم المتعة للرجل، فهي موضوع للذته، وندر ان جرى الاهتمام بها خارج هذه الوظيفة النمطية الموروثة، وقد تغلغلت الرؤية الأبوية الذكورية في مادة الادب العربي، وصاغت دلالاته الكبرى، وفيه ظهرت علاقة المرأة بالرجل بوصفها علاقة تابع بمتبوع، وكل ذلك عطل مدة طويلة، ظهور وعي انثوي يمكن الثقافة، ومنها الأدب، ان تستقر على اسس متوازنة ومتفاعلة، ولا يستقيم ذلك الا بتخطي هيمنة الرؤية الذكورية للعالم، وقبول الرؤية الانثوية بوصفها رؤية مشاركة وليست تابعة.
وأكد المؤلف أن الكتاب غير معني بتقديم تاريخ للأدب الروائي الذي كتبته المرأة العربية، وقد عرف ذلك منذ أواخر القرن التاسع عشر بنساء أسهمن في ريادة الرواية "إليس بطرس البستاني، وزينب فواز، ثم لبيبة هاشم"، واجيال متعاقبة من الكاتبات اللواتي ظهرن طوال القرن العشرين، إنما يروم الوقوف على الظاهرة الأكثر اهمية، فيما نرى، وهي ظاهرة الوعي النسوي بالذات وبالعالم، ثم الرؤية السردية الانثوية التي ظهرت نتيجة لذلك، وهي في عمومها رؤية ترفع اعتراضا جوهريا- معلنا او مضمرا- ضد الرؤية الذكورية التي صاغت الوعي الاجتماعي العام صوغا احاديا يفتقر الى التنوع والتعدد.
وإذا كانت التحيزات النسوية المفرطة لصالح الانوثة قد انحسرت تقريبا في الآداب العالمية الحديثة، بحسب إبراهيم، التي سبقت الادب العربي الى الاهتمام بالقضايا النسوية، اذ كانت في معظمها ردات انفعالية على استبداد الثقافة الأبوية، فمن المنتظر والمتوقع، ان تأخذ تربة السرد النسوي العربي في حسابها مخاطر الاندفاعات المتطرفة التي شهدتها الآداب الاخرى منذ منتصف القرن العشرين، وحاولت نقض الأدب الذكوري برؤيته الاستقصائية، الى درجة المحاكاة الضدية، او الانكفاء المغلق على الانوثة بوصفها ميزة خاصة بجسد المرأة، فوقع الإعلاء الهوسي بميزاته الجمالية والحسية والشبقية، بحثا عن توازن مفقود يواجه به الادب النسوي ما كرسته الثقافة الذكورية.
واشار المؤلف انه قد توفرات نسبيا ظروف مناسبة للشراكة والحوار والتفاعل، ولعل انتباه الرجال الى القيمة الانسانية المتنامية لدور المرأة، بما فيها تقدير الأدب الذي تكتبه، وتخفف الأدب النسوي من نزعات الغلو التي دشنتها الحركات النسوية الراديكالية في اول امرها، سينتهي بالجميع الى مزج الرؤى وتنوع المنظورات، وتفاعل التصورات بما يتيح للرؤى الانثوية ان تسهم بطريقة فاعلة في ظهور تمثيلات سردية، فيها ثراء خصب من التنوع الانساني الشامل.
ويعتقد انه مع ذلك، فقد وجد تباين في السرد النسوي بين مواقف شديدة الاتصال بالانوثة المجردة، بوصفها قيمة مطلقة خارج سياق الزمان والمكان، ومواقف تربطها بالثقافة الذكورية المهيمنة، واخرى تسعى الى تطوير نوع من الشراكة. وكل ذلك مفهوم ضمن هذه الحقبة التدشينية في السرود النسوية التي ترافقها فوضى المواقف الفكرية، والتباس وجهات النظر الشخصية، والتحيزات المتصلة بالهوية الانثوية.
وذهب إبراهيم إلى انه يمكن إدراج السرود النسوية في سياق نصوص المتعة، تلك النصوص التي تزعزع معتقدات المتلقي، وربما تخربها، فتخلف لديه احساسا بأنه يقرأ نصوصا لا تنسجم وما عهده من تخيلات موروثة عن العالم الذي يعيش فيه، فهي تضمر نقدا له، وتبرما به، وبكل ذلك تستبدل رغبة في حريات فردية مغايرة للحريات الجماعية المبهمة التي تواطأ عليها الاخرون. الى ذلك تقوم بتمثيل تجارب نسوية لا تعرف الولاء، وفيها من الخروج عن الاعراف اكثر ما فيها من الامتثال لها، فتتحرك في مناطق شبه محرمة، وتحدث قلقا في الانسجام المجتمعي، لأنها تريد ان تقطع صلتها بالموروث حينما تشك في كفاءته وجدواه، هي بمجموعها تختلف عن الكتابة الباعثة على الارتياح التي تستجيب لتوقعات المتلقي، وتشبع رغباته، وتتوافق مع الاعراف السائدة. براعة السرود النسوية فيما تترك من اسئلة لا ما تخلف من استرخاء.
وأكد المؤلف على قضية مهمة، فمع إقرارنا بأن التمثيلات السردية للعالم هي نتاج وعي الافراد، نساء ورجالا، بأحوال العالم ووجودهم فيه، مشيرا الى ان تلك الرؤى الفردية ليست منقطعة عن خلفياتها الاجتماعية والثقافية التي تتسرب الى تضاعيفها، وتتفاعل فيما بينها، لتضمر في داخلها كثيرا من التجارب العامة والخاصة، فالرؤى التي تضوغ العوالم السردية التخيلية لا تنفصل عن مرجعياتها انفصالا تاما، ولكنها في الوقت نفسه لا تعبر عنها تعبيرا مباشرا.
ورأى ان العلاقة بين الرؤى السردية وخلفياتها الاجتماعية والتاريخية والثقافية، علاقة مركبة ومتعددة المستويات ومتداخلة، ويتعذر وضع قانون لضبطها وتفسيرها، وكشف اواصرها، ولكنها علاقة قائمة لا سبيل الى إنكارها او تجاهلها.
وبين إبراهيم ان المناهج الخارجية، ومنها نظرية المحاكاة، ونظرية الانعكاس، والمنهجان الاجتماعي والنفسي في دراسة الادب، قدمت تفسيرات جاهزة للعلاقة المباشرة بين الطرفين، كما ان المناهج الشكلية والبنيوية قد انكرتها ولم تعترف بها، ودرست الادب بوصفة ظاهرة لغوية منقطعة عن المرجعيات الحاضنة لها، وينبغي الاكتفاء بتحليل جمالياتها الاسلوبية والتركيبية.
وارجع المؤلف تباين التفسيرات النقدية لتلك العلاقة الى السجال النظري الذي كان القصد منه بناء مقومات منهجية تحليلية، اكثر من كونه بحثا في طبيعة التمثيل الذي تقوم به الآداب للمرجعيات الخارجية، وعليه فالرؤية الانثوية الصاعدة في مجال الآداب السردية العربية الحديثة لا تنقطع، بأي شكل من الاشكال، عما هو قائم من رؤى، ومع توافر موقف نقدي من الرؤية الذكورية، فلا نجد تعارضا مطلقا، او عدم اعتراف، وسعيا لنقض تلك الرؤية من اساسها، ولعل الرواية النسوية تقدم امثلة كثيرة على ان التمثيل السردي للرؤى الانثوية، اتخذ مسارا صاعدا اغنى مدونة السرد العربي الحديث.