يعتبر الناقد والقاص والروائي الدكتور محمد برادة من بين أهم الكتاب الطليعيين في الأدب المغربي المعاصر الذين أسهموا بشكل وافر ولافت في التراكم النقدي والروائي ليس على مستوى المغرب فحسب وإنما على الصعيد العربي بما حققه وأنجزه من كتب ومتابعات وقراءات نقدية غزيرة جدا كانت بكل تأكيد على مدى نصف قرن وما تزال ذلك الجسر الثقافي بين المغرب والمشرق العربي ومن جانب آخر بما أنجزه من ترجمات هامة لأشهر الكتب النقدية التنظيرية الفرنسية على الخصوص ل»رولان بارت وجان جينيه وميخائيل باختين ولوكليزو» وغيرهم والتي أسهمت في تحديث الدرس والمقاربات النقدية والبحوث الجامعية ومد جسور المثاقفة مع شمال حوض البحر الأبيض المتوسط مما جعل منه ذاكرة ثقافية مغربية وعربية هرمية بامتياز.
الدكتور محمد برادة كان أيضا من بين أهم الأسماء المؤسسة لاتحاد كتاب المغرب أواخر الستينات إلى جانب شيخ الصحفيين والأدباء المغاربة عبد الكريم غلاب ومحمد عزيز لحبابي ومصطفى القباج وغيرهم وسيتوج هذا المسار الإتحادي بتقلده للرئاسة من سنة 1976 إلى سنة 1983. ومن جانب آخر ولإيمانه الراسخ بتلازم الفعل الثقافي بالسياسي من خلال الانتماء العضوي فقد انخرط أيضا منذ أوائل الستينات في الدفاع عن أهم القضايا الحقوقية والسياسية المغربية والعربية بشكل عام ولعل أهمها قضية الدمقرطة والتحرر.. قصة «المعطف البالي» كانت أولى قطرات الغيث السردية التي نشرها محمد برادة بجريدة العلم المغربية سنة 1957 ثم نشر مجموعته القصصية الأولى موسومة ب»سلخ الجلد» سنة 1979 أما أولى رواياته «لعبة النسيان» فقد صدرت سنة 1987 ثم تدفقت بعدها روايات أخرى نذكر من بينها «الضوء الهارب»، «مثل صيف لن يتكرر»، «امرأة النسيان» إلى آخر رواية له صدرت في ربيع سنة 2014 موسومة بـ»بعيدا من الضوضاء .. قريبا من السكات».
أما في مجال الترجمة فإن المكتبة العربية تزخر بالعديد من إنجازاته القيمة نذكر منها على الخصوص كتاب «درجة الصفر في الكتابة « لرولان بارت «من المنغلق إلى المنفتح لمحمد عزيز الحبابي « و» قصائد تحت الكمامة وهي ديوان شعر لعبد اللطيف اللعبي» و»الخطاب الروائي لميخائيل باختين» وبمناسبة ترجمة روايته «إمرأة النسيان» إلى الإسبانية وهو في طريقه إلى الضفة الأخرى الأندلسية لتوقيعها أجرينا معه هذا الحوار:
> تتشرف مجلة إتحاد كتاب الإنترنت المغاربية وفي زحمة انشغالاتكم النقدية والإبداعية بأن تقتنص هذه اللحظة المائزة والنفيسة بإجراء هذا الحوار معكم بمناسبة صدور الترجمة الإسبانية لروايتكم "امرأة النسيان" بداية هنيئا لكم بهذا الإصدار المتميز وسؤالي الأول دكتور محمد برادة وأنتم في طريقكم إلى توقيعها بإسبانيا ماهي دلالة هذه الترجمة في عمقها التاريخي الإيبيروعربي مقارنة مع ترجمة بلغة أخرى فرنسية أو أنجليزية أو روسية ؟ وقد استرعى انتباهي خلال تـوقيع "امرأة النسيان" في طبعتها الإسبانية، أن بعض الذين قـرأوها، أشاروا أثناء المناقشة، إلى وجود تـشابه بين وضعية الأحزاب عندهم والصورة البارودية التي ترسمها الرواية للحزب اليساري المغربي السائر نحو الانحدار وفقـدان المصداقية...ونقطة الالتقاء هذه، تعود إلى الأزمة العميقة التي تعيشها إسبانيا نتيجة فشل تعاظم عدد الساخطين على اليمين واليسار، والبحث عن مستقبل يبدو مظلما بعد تعـثر مشروع الاتحاد الأوروبي، وتلاشي الثقة في السياسيـيـن الذين يقولون ما لا يفعلون... لذلك فـإن السياق المتقارب بين وضعي المجتمعين، على رغم تباين الفترتين التاريخيتين، جعل "امرأة النسيان" تلامس موضوعا مشتركا. >في تقديركم، هل استطاعت هذه الترجمة التي أنجزتها كل من سيليا تـيـلـيـز وعادل بـرادة أن تكون وفية للحمولة الفكرية والأبعاد الجمالية والسردية للنسخة العربية الأصلية ؟ > قمتم بترجمة العديد من الأعمال الإبداعية الأدبية في الشعر والرواية إلى اللغة العربية للطاهر بن جلون وعبد اللطيف اللعبي وغيرهما، ماهو إحساسكم بين كونكم كاتبا مترجما بكسر الجيم وكاتبا مترجما بفتح الجيم ؟ > لا جدال في أن المغرب يعتبر رائدا في الدول العربية في مجال الترجمة بفضل جيل الرواد أمثالكم والأجيال التي جاءت من بعدكم، لكن ما الذي يجعل هذه الحركية المتألقة في الترجمة لا تحتفي بالأعمال الروائية والشعرية المغربية لنقلها إلى لغات عالمية أخرى، أذكر على سبيل المثال أعمالكم وأعمال عبد الله العروي ومبارك ربيع وأحمد لمديني وغيرهم ؟ لكن المشروع أُقبر وظلت المبادرات الفردية هي السائدة، وهي جد محدودة قياسا إلى ما يـنجـزه المركز القومي في مصر، أو هيئات أخرى في الإمارات والكويت...أمـا بالنسبة لترجمة أعمال مغربية إلى لغات أجنبية، فالمسألة لا تخضع لرغبة ذاتية أو مبادرات فـردية، بـل هي متعلقة أساسا بـإرادة و"اختيار" دور النشـر الأجنبية التي هي مؤسسات حـرة وتختار وفـق أذواق واهتمامات القراء الأجانب الذين يقـتنون الكتب ويتيحون لدور النشـر الاستمرار. لذلك فـإن تـرجمة أعمال أدبية مغربية بمبادرات فـردية لـن تـنجح في إقناع الناشرين الأجانب وبالتالي لن تـوفــق إلى تـسويق الكتاب المترجم وتوصيله إلى قـرائه المحتمـلين. إن عملية الوصول إلى القراء الأجانب عملية جد مـعقدة، ولا مناص من أن تأتي المبادرة من "الآخـر" المتابع لما يُنـشـر عبر لغات العالم، ومقاييسه تتراوح بين الجودة الفنية العالية (ظاهرة رواية الواقعية السحرية في أمريكا اللاتينية، مثلا) أو البحث عن نصوص تـقدم "شهادة" عن أوضاع سياسية متردية أو سلوك اجتماعي يستحق الفضح. ونتيجة لهذا الوضع الترجمي المعقد، نلاحظ أن الزملاء العرب الذين يكتبون مباشرة بالفرنسية أو الإنجليزية، سرعان ما يشقون طريقهم مستفـيدين من الـبنـيـات الثقافية وأواليات التوزيع ذات الخبرة الواسعة...، علما أن عدد الذين يكتبون بالعربية هم أضعاف زملائهم الكاتبين بلغة أجنبية. > هل صحيح أن الروائيين النقاد يتوفقون أكثر في كتابة الرواية مقارنة مع غيرهم من الكتاب باعتبار أنهم يشتغلون على بنيات الرواية برؤية أكاديمية وعالمة بأدوات مختبرها السردي ؟ لكن، يجب التـنـبـيـه إلى أنه من غير المقبول اليوم، أن يـزعم روائي أنـه يكتب اعتمادا على السليقة أو التلقائية دون الالتفات إلى ما أنجـزه كتاب كبار من قبله. إنه لا مناص للروائي من أن يسـتوعب تاريخ الرواية العالمية، وأن يتمعـن في الأشكال وطرائق السرد التي تكون معلما بارزا في منجـزات الرواية الكونية من غير ذلك سيكون الروائي معرضا للوقوع في التكرار والعجز عن إيجاد الشكل الملائم لتجربته الروائية. > بارتباط مع السؤال السابق، من رواية لعبة النسيان إلى رواية الضوء الهارب هل يمكننا أن نتحدث عن ملامح مشروع روائي يقتعد على خلفية عالمة بالنظرية النقدية من جهة ومن جهة أخرى على ذاكرة إجتماعية وثقافية وسياسية تحفر في ثالوث الذاكرة والموت والمرأة ؟ لكن، في الآن نفسه، أحاول أن أتعامل مع جميع الـتـيمات والموضوعات على قدم المساواة، لأن الحياة لا تستـقيم إذا قرصناها على مجالات دون أخرى. بعبارة ثانية، العواطف والسلوكيات والأفكار تتجاور وتتقاطع وتتبادل التأثير، ولا يمكن أن نعزل السياسة عن الحب والجنس، عن الوفاء والخيانة، عن الشـر والخير، ولا التاريخ عن تجلياته المختلفة وطرائق فهمه وتأثيره في الوعي والمصائـر...يضاف إلى كل ذلك، عنـصر التخيل الذي يوسع رحابة العالم، ويسمح بفهـم ما يجعله الواقع مسـطحا وفاقـد المعنى. > لو قمنا بجرد لحصيلة الإصدارات الإبداعية الأدبية المغربية فسنلاحظ تصاعدا متميزا في أرقام المنجز الروائي، هل فعلا نعيش زمن الرواية وأن الرواية أضحت ديوان العرب أم أن هناك تطاولا على هذا الجنس أعني إما هناك روايات بلا روائيين أوهناك روائيين بلا روايات ؟ وجـنس الرواية أقـدر-كما أوضح منظرو الرواية-على تجـسيد "نثرية" الحياة والتـقاط لغة الكلام والتواصل المصاحبة لفترات التغـيـر. إذن تـصدر الرواية لبقية أجناس التعبيـر لا تعني أفضليـتها على الشعر أو القصة أو المسرح. وفي الآن نفسه، لا يعني هذا الاهتمام أن الذين سيخوضون غمار الرواية سيحققون مستوى جيدا في جمالية النص ودلالته. نحن في أول الطريق، والرواية "صـعب سـلـمها"، ومن الطبيعي أن يفوق الـغث السمين. وأظن أن من أسباب ذلك، كـون الكتـاب الشباب يتعجـلون النـشـر ولا يعملون على استـكمال الأدوات والشروط التي تجعل رواياتهم قادرة على جذب اهتمام قـراء محتملين غير مستعدين لـتبديد وقتهم في قراءة لغو الكلام أو قراءة روايات لا تـبـرر سـبب وجودها بمـقاييس فنـية مقنعة... > دخلت الرواية العربية مع ظهور الرقمية في تجربة جديدة ما اصطلح عليه البعض بالرواية الرقمية نذكر على سبيل المثال تجربة الأردني محمد سناجلة الذي أصدر ثلاث روايات هي "شات" و"ظلال الواحد" و"صقيع" بداية هل لديكم فكرة عن هذا الإبداع الأدبي الرقمي العربي (قصة رقمية) (قصيدة رقمية) وثانيا أليس من السابق لأوانه أن نتحدث عن تأسيس لنظرية نقدية رقمية ؟ لكن، أظن أن تـغـيـر وسائل التعـبير لن يمحو المقاييس الأساس عند الـتقيـيم النقدي والفني. بعبارة ثانية، لا أظن أن غلبة الإبداع الرقمي ستؤدي إلى محـو مقاييس الإبداع والجمال التي انزرعت في نفوس البشـر منذ عصور مغرقة في القدم. وكل تحول في حوامل التعـبير والإبداع قد يحمل عناصر إضافية في الاقتراب من بلورة معايير جمالية ذات طابع إنساني كوني، إلا أن هذا المجال لا يعرف إلغاء اللاحق للسابق، كما الحال في العلوم. > بين النشر الورقي والإلكتروني ما يشبه الحرب الباردة ومن دون شك أن بوادر الحسم فيها سيكون للنشر الإلكتروني إذ أن كل الجرائد المغربية أطلقت نسخها الالكترونية هذا فضلا عن تصاعد ملحوظ للكتاب الإلكتروني باعتباركم من جيل الكتاب الرواد ماهو شعوركم في لحظة افتقاد لحميمة وملمس الورق واستبدال كتاب الجيب بكتاب الإيباد الإلكتروني ؟ عشتم العديد من المحطات السياسية التاريخية المغربية والعربية من أواخر الخمسينات إلى الثورات الراهنة (حروب، إنقلابات، إنهيار المعسكر الشرقي، الحادي عشرمن أيلول، الثورات العربية .. إلخ) كيف تنظرون كأكاديمي وروائي عربي ومثقف إلي ما يجري من الماء إلى الماء وهل الرواية العربية قادرة على إستيعاب كل هذا الزخم وقادرة على تسوير كل هذا الدم والدخان ؟ >أخيرا نود أن نستمزج رأيكم في ظاهرة الجوائز العربية وما يثار حولها من أسئلة شائكة، عن رمزيتها، قيمتها المالية، لجان القراءة والجهات الراعية لها وأحيانا خلفياتها السياسية ؟ أما مسألة تنظيم هذه الجوائز فهي تـحتاج إلى مراجعة، لأن تغيير اللجان في كل دورة لا يضمن العثور على محكميـن لهم الشروط المطلوبة. والأفضل أن نسلك الطريق المتبع في بعض الجوائز الأدبية العالمية التي تعتمد على لجنة تحكيم قـارّة، مكونة من أعضاء مشهود لهم بالكفاءة والنزاهة، ويكون من حق الجمهور أن يتدخل بملاحظاته وتقييماته بعد إعلان النتائج. ويتم تعويض الأعضاء الذين تقدم بهم السـن أو التحقوا بالرفيق الأعلى. لكن الأهم، هو أن تحدد الجهات الراعية للجوائز أهدافها واشتراطاتها ليكون المرشحون على بـيـّنـة من اختياراتهم.