لا يستطيع أي خبير مصرفي يتصف بالموضوعية، أن ينفي أن صناعة التمويل الإسلامي تحقق نموا سريعا، وأن نفوذها بات متناميا في عديد من الاقتصادات الإسلامية والغربية على حد سواء، وأن هذا النفوذ والفاعلية المتزايدة، تجاوز تأثيرها أماكن النفوذ التقليدية، التي تركزت تاريخيا في بلدان الشرق الاوسط والعالم الإسلامي.
ويعتبر كثير من الاقتصاديين حتى من خارج العالم الإسلامي، أن الإصدار المتزايد للصكوك الإسلامية، التي تعادل وفقا لقيم ومفاهيم الاقتصاد الإسلامي السندات في النظام الرأسمالي، وتزايد الطلب عليها أيضا من قبل المستثمرين، لدليل داعم لحقيقة أن التمويل الإسلامي آخذ في النمو، وأن القضية الآن لم تعد تقف عند حدود التمويل الإسلامي، كعنصر فعال في استقرار النظام المالي للبلدان التي يزدهر فيها، بقدر تأثير هذا النمط من التعاملات المصرفية على استقرار النظام الاقتصادي ككل بشقيه الإنتاجي والخدمي.
ومع الفاعلية المتزايدة للتمويل الإسلامي، فإن الأروقة البنكية والخبراء الاقتصاديين في بعض البلدان الغربية ومن بينهم المملكة المتحدة، بالإضافة إلى مختصين في المؤسسات المالية الدولية مثل البنك الدولي وصندوق النقد، قد أخذوا على عاتقهم مناقشة وبحث إمكانية استخدام هذا النمط من التمويل المالي، لإصلاح جوانب القصور والخلل الراهنة في النظم المالية الغربية، وخاصة مع استمرار الأزمة المالية في العديد من البلدان الرأسمالية، دون أفق حقيقي لحل ناجع، يمكن المسؤولين وأصحاب القرار من القول بأن النظام الرأسمالي العالمي، قد خرج من الأزمة التي أصابته عام 2008، والتي لم يفلح حتى الآن في الخروج منها بشكل كامل.
وعلى الرغم من أن تلك النقاشات لا تزال في إرهاصاتها الأولى، وأن تيار الخبراء المصرفيين الغربيين، الذين يتشككون في قدرة أنماط التمويل الإسلامي على إحداث تغييرات نوعية وحقيقية، في أنماط التمويل المصرفي التقليدية في البلدان الرأسمالية عالية التطور في تراجع، إلا أنه يمكنا القول بدرجة كبيرة من الثقة، بأن تيار عريض آخذ في التبلور والتزايد بين المصرفيين الأوروبيين بقدرة التمويل الإسلامي على تلبية الطموحات العالمية، وإحداث درجة أعلى من الاستقرار المصرفي على المستوى الدولي، وخلق مزيد من التوازن في آليات الاقتصاد الكلي، بما يمكن النظام الاقتصادي العالمي من استعادة معدلات النمو المرتفعة.
الدكتور روبرت تشاب مان أستاذ المالية العامة سابقا والاستشاري في عدد من مؤسسات الإقراض المالي الدولية يعتقد أن الاهتمام الغربي بالتمويل الإسلامي طبيعي، مشيرا إلى أن التمويل الإسلامي يشمل حاليا مجموعة متنوعة للغاية من الأنشطة المالية والتمويلية، ووفقا لتقديرات مؤسسة دولية مثل صندوق النقد الدولي فإن أصول الصيرفة والصكوك تمثل حاليا نحو 95 في المائة من مجموع أصول التمويل الإسلامي.
ويضيف لـ "الاقتصادية"، أنه في العام قبل الماضي قدر الصندوق أن أصول التمويل الإسلامي قفزت من 200 مليار دولار أمريكي عام 2003 إلى 1.8 تريليون دولار بنهاية عام 2013 إلى تريليوني دولار العام الماضي، لتصل هذا العام وفقا لتقديرات بعض الخبراء إلى ما يتراوح بين 2.3-2.5 تريليون دولار وسط توقعات بأن تصل إلى ما يتراوح بين 5.5- 6 تريليون دولار بحلول عام 2025، وتتركز بالأساس في البلدان الخليجية وتحديدا السعودية وماليزيا وتركيا.
وأضاف تشاب مان أن الأمر لا يتوقف عند القدرة المالية الضخمة، وقيمة رؤوس الاموال تلك - وخاصة أن بها قدر كبير من السيولة - لاستخدامها في قنوات استثمارية بشكل سريع ومباشر، وإنما تنبع أهمية مساهمة التمويل الإسلامي في المنظومة المالية العالمية، من التنامي السريع لقدراته المستقبلية.
ووفقا لتقديرات صندوق النقد الدولي، فإن نمو التمويل الإسلامي تفوق خلال الأعوام العشرة الماضية على نظم التمويل التقليدية، وتجاوز معدل نفاذ الصيرفة الإسلامية إلى الأسواق 15 في المائة في 12 بلد من بلدان الشرق الأوسط وآسيا، وقدر الصندوق مقدار الزيادة في الصكوك الإسلامية بنحو عشرين ضعف لتصل عام 2013 إلى 120 مليار دولار أمريكي، بينما يقدرها بعض المصرفيين حاليا بما يتراوح بين 250-285 مليار وسط تقديرات بأن تبلغ تريليون دولار بحلول عام 2025، جراء التوسع المتزايد في أسواق غير تقليدية وتحديدا الاسواق الأوروبية.
وليم تشتر الخبير المصرفي والباحث السابق في البنك الدولي يرى أن التمويل الإسلامي قد يمثل منافسا شديدة الخطورة لأنظمة التمويل المصرفي التقليدية بحلول منتصف القرن.
وأوضح لـ "الاقتصادية"، أن إدراج صندوق النقد للتمويل الإسلامي رسميا ضمن تنظيماته الرقابية، وتأكيده اعتماد لوائح للتمويل الإسلامي بحلول العام المقبل، يعود أساسا إلى إدراك القائمين على تلك المؤسسة المالية العملاقة، للدور المهم والمتزايد الذي يقوم به التمويل الإسلامي في الوقت الراهن في العديد من البلدان، على صعيد آخر فإن اهتمام الصندوق بالتمويل الإسلامي سيمنح هذا النمط من التمويل، دفعة قوية للأمام ستسهم في تعزيز مكانته في أسواق المال العالمية.
ويؤكد تشتر أن أحد العوامل الرئيسية التي تمنح أنظمة التمويل الإسلامي وضعية مميزة في أسواق المال العالمية، هي القدرة التي يتمتع بها في جذب قطاعات ضخمة من المودعين غير التقليديين، الذين لم يكونوا أبدا جزء من المنظومة المالية العالمية، وهو ما يعني في نهاية المطاف زيادة القدرة المالية للنظام المالي الدولي ككل، ومن ثم المساهمة في تعزيز الاستقرار الاقتصادي على المستوى الكلي، ورفع مستوى المعيشة بشكل عام.
ويضيف تشتر أن مفهوم التمويل الإسلامي وما يرتبط به من مؤسسات مالية، نجحت بشكل ملحوظ في جذب قطاعات كانت مستبعدة أو مهمشة من قبل البنوك التقليدية لأسباب دينية أو ثقافية، وساعدت بفضل العامل المرتبطة بالشريعة الإسلامية، في أن تجعل من هذا النمط من التمويل نمط أكثر أمنا من التمويل التقليدي، وهذا يبدو أكثر جاذبية لأصحاب الودائع الصغيرة، والمدخرات المحدودة، وهذا النجاح في تلك النقطة تحديدا هو ما يجعل الكثير من المؤسسات المالية التقليدية حريصة على إنشاء أقسام للتمويل الإسلامي لديها.
وإذ لا تنكر الدكتورة سو دوجلاس الخبيرة في مجال الاستثمار أهمية تلك العوامل في تعزيز دور التمويل الإسلامي في أنظمة التمويل العالمية، فإنها تعتقد أن أسباب صعود التمويل الإسلامي على المستوى الدولي، تعود إلى أسباب كامنة في المفهوم في حد ذاته، بحيث تجعله أكثر أمنا للمودعين والمستثمرين، مما يجعله جذاب للطرفين.
وتضيف لـ "الاقتصادية"، أن فكرة تقاسم المخاطر وحظر المضاربات، هي فكرة أصيلة وجوهرية في النظام المالي الإسلامي، تجعله ملائم للعديد من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وتلك أحد الأسباب التي عززت من مكانة التمويل الإسلامي في فترة الأزمة الاقتصادية والمالية الدولية الراهنة.
وأشارت دوجلاس أنه منذ اندلاع الأزمة المالية العالمية في عام 2008، وأسعار الفائدة في تراجع حتى أنها وصلت في بعض البلدان إلى أقل من الصفر، على أمل أن يساهم ذلك في تشجيع المستثمرين على الاقتراض والاستثمار، ومن هنا يزداد رونق وبريق التمويل الإسلامي وخاصة مع ما يتمتع به من سيولة ضخمة.
ومع هذا، يرى الاقتصادي العربي أحمد سيف فخري أن الأفق مفتوح للتمويل الإسلامي، لكنه يجب أن يحرص على إحداث بعض الإصلاحات التي يمكن أن تساهم بشكل كبير في حال القيام بها، في إحداث طفرة نوعية في اجمالي أصوله الكلية، وحجم مساهمته الفعلية في سوق التمويل العالمي.
ويوضح لـ "الاقتصادية"، أن الجزء الأكبر من التمويل الإسلامي لا يزال محصورا في نطاق المعاملات البنكية، وهذا يضيق إلى حد كبير القنوات الأخرى المتاحة لتوسيع أشكال التمويل الإسلامي وما يرتبط بها من ربحية.
وأضاف أن الاقتصاد الإسلامي لا يزال في إرهاصاته الأولى، وقطاع التمويل الإسلامي لا يزال يسعى إلى وضع اللبنات المستقبلية لهذا الصرح العملاق، وبالطبع لم يأخذ بعد شكله النهائي، نظرا لأن نظم التمويل الإسلامي تلك ممتدة على نطاق واسع من البلدان، ولهذا نلاحظ وجود تباين في الأطر التنظيمية لها، وهذا يضعف إلى حد كبير قدرة البناء على تحقيق أكبر فائدة منه في أقصر فترة زمنية، ولهذا فإن توحيد الجهود لبناء إطار تنظيمي موحد لهيئات التمويل الإسلامي، سيعد خطوة أساسية لتحقيق المزيد من الانطلاق مستقبلا.
اقرأ أيضًا:
مسلمو أوروبا.. والبحث عن التمويل الإسلامي
فيتش تتوقع استمرار تباطؤ نمو التمويل في المصارف الإسلامية في الإمارات خلال 2017
