يقرأ المواطن أو يسمع حديثاً متواتراً عن تنويع القاعدة الاقتصادية أو القاعدة الإنتاجية الفعلية والتحوُّل من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج وغير ذلك من طروحات ومفاهيم اقتصادية يخمن البعض ما تعنيه ويعرف مختصون آخرون معناها. وفي غمرة هذا الحديث يتم السجال حول دور القوى العاملة في مسيرة هذا التحول، فمن قائل إن التصنيع والتقنية لا يمكن تحققهما دون وجود عمالة مؤهلة، ومن قائل إن هذه العمالة تنبت في أرض التصنيع والتقنية.. حتى ليبدو الأمر في الحالين هو ذاته، بمعنى أن ينتظر أحدهما الآخر إلى ما لا نهاية كحكاية البيضة والدجاجة، أيهما أولاً، مع أن العلم حلّ هذه الفزورة الأسطورية منذ قرون.
والحقيقة.. لا تشترط نباهة وذكاء خاصين لتجاوز هذه المعضلة، بل هي ليست معضلة إلا حين تترك لعامل الوقت ومباغتات المصادفات، وطبعا لا تراهن الأمم التي تريد تحقيق نهضة صناعية تقنية لتنويع قاعدتها الاقتصادية على الوقت وانتظار أن يجود الزمن بالقوى العاملة القادرة على إنجاز التحول نحو عالم صناعي تقني.. لأنها ببساطة تعمد إلى ما لا بد من العمل على أساسه، وهو أن يتم العمل بتلازم المسارين معا، حيث تقوم الصروح والمراكز الصناعية والتقنية بتلازم مع معاهد ومراكز خاصة للتأهيل والتدريب على تقانة ومهارة وتكنولوجيا أي صناعة أو تقنية ترى الدولة أنها تحقق لها رؤيتها المستقبلية الاقتصادية ولم تقم صناعات وتقانات الغرب والشرق إلا في إطار هذا التلازم الشرطي الإجرائي لشبكة الأعمال المنتجة فلم تكن ماليزيا ولا الصين ولا الهند ولا سنغافورة ولا البرازيل وقبلها جميعا العالم الغربي المتقدم سوى نتاج هذا التلازم الشرطي لمساري الحواضن الصناعية والتقنية والقوى العاملة المطلوبة لها.. وهي حتما تتطلب استعانة بالخبرة الأجنبية مجدولة بوعي للزمن يشترط ولادة القوى الوطنية العاملة المالكة للعلم والمهارة العمليتين والتي بدورها ستكون خميرة قوى عاملة جديدة تحل محل الخبرة الأجنبية إلا فيما لا يتوافر أو يتطلب ضرورة الاستعانة بها.. وهذا نهج، كما قلنا، لا يغيب عن بال المخططين لإحداث تنوع فعلي في القاعدة الاقتصادية، لأن عدم المضي في هذا الاتجاه لا يستنفد الوقت فحسب وإنما يحرم الوطن من كنز كنوزه وهم القوى العاملة، التي حين تشتبك بصناعة الاقتصاد فإنها تستثمر ميزات موارد الوطن النسبية من جانب وتخلق في الوقت نفسه منتجات سلعية لها أيضا ميزات نسبية قادرة على المنافسة من جانب آخر، وبالتالي تعميق التحول من اقتصاد ريعي إلى اقتصاد منتج.
وهذا يستدعي بكل تأكيد أن تكون الرؤية المستقبلية للاقتصاد الوطني واضحة فيما تريد أن تكون عليه البلاد في أفقها المنظور وفي أفقها الأبعد مدى.. وأن تكون مرتكزات هذه الرؤية عينية علمية عند مؤسسات صناعة السياسات الاقتصادية كالمجلس الاقتصادي الأعلى ووزارة الاقتصاد والتخطيط والهيئة العامة للاستثمار ووزارة التجارة والصناعة ووزارة العمل والغرف التجارية.. فكلهم معنيون بإحداث هذا التحول وكلهم بكل تأكيد يسعون إليه.. غير أن السعي يحتاج إلى المبادرة إلى ذلك دون تأخير.. في عصر تتدافع فيه الأمم إلى أن تمتلك قوتها الاقتصادية المستدامة.