الذهب يفقد بريقه، والفضة يتراجع لمعانها، والنحاس تتآكل أسعاره، والبلاتين تتهاوى قيمته.
هي أنباء غير طيبة إذاً للمتعاملين في أسواق المعادن، وسط مخاوف من ألا يقف الأمر عند حدود انخفاض مؤقت في الأسعار، بقدر كونه اتجاها سعريا لهذا العام.
وكشفت البيانات التي أعلنتها بورصة شنغهاي، عن تراجع إجمالي أحجام عقود الإسناد في البورصة بنحو 75 في المائة لتصل لأدنى مستوى خلال أكثر من عام، وأدى هذا إلى انخفاض ملحوظ في قيمة عديد من المعادن، فانخفض سعر الذهب تسليم شهر نيسان (أبريل) بنحو 0.7 في المائة للأونصة، أما الفضة فتراجعت أسعارها بنحو 3.7 في المائة للأونصة، أما البلاتين فخسر نحو 8 في المائة من قيمته ليصل لأدنى مستوى سعري له خلال خمسة أعوام ونصف، حيث بلغ سعر الأونصة 1096.50 في الأسواق الآسيوية.
وإذ تشير التقارير الإخبارية إلى أن التراجع الراهن في أسعار عدد من المعادن الرئيسية، يعود لإدراك المتعاملين في البورصات أن الطلب العالمي سينخفض خلال الأيام الخمسة المقبلة، نتيجة إغلاق الأسواق الصينية لاحتفال الصينيين بالسنة القمرية الجديدة، فإن البعض يعتقد أن قضية الطلب على المعادن، أكثر تعقيدا من مجرد انخفاض الطلب الصيني.
ويعتقد جوهان جولي المحلل المالي في بورصة لندن، أنه من الصعب تحديد عامل واحد يفسر التراجع الراهن في أسعار المعادن، إلا أنه يصرح لـ "الاقتصادية"، بأن ارتفاع قيمة الدولار يلعب دورا مهما، في خفض الطلب على المعادن وتحديدا الذهب، وأن كثيرا من المعادن مثل الذهب والفضة والبلاتين وحتى النحاس يعد لدى المضاربين والمستثمرين مخزنا للقيمة، فإذا ارتفعت قيمة الدولار، فإن الأغلب الأعم هو تراجع قيمة تلك السلة من المعادن.
ويرى عدد من المختصين في سوق المعادن أن لكل معدن اتجاهاته السعرية الخاصة ارتفاعا وانخفاضا، وأن الأسباب تكمن في محددات العرض والطلب الخاصة به.
الدكتور جيمس جلين رئيس قسم الأبحاث والدراسات في اتحاد السبائك البريطانية يعلق على تراجع قيمة الذهب بالقول، "إنه إذا استبعدنا التذبذب الراهن في سعر المعدن النفيس هبوطا وانخفاضا منذ بداية العام، فيمكنني القول إن أسعار المعدن الأصفر لا تزال منخفضة بنحو 7.9 في المائة".
وأضاف جلين أن تحسن الاقتصاد الأمريكي أدى إلى تكهنات متزايدة بارتفاع سعر الفائدة خلال الأشهر إن لم يكن الأسابيع المقبلة، وهذا يعزز قوة الدولار، ويضعف من الطلب على الذهب، فالاحتفاظ بثروتك في شكل دولارات يعود عليك الآن بسعر فائدة أعلى، ولهذا أتوقع انخفاض سعر المعدن الأصفر بمجرد زيادة الفائدة الأمريكية.
وحول مقدار الانخفاض، يشير جلين إلى أن الأمر سيتوقف على معدل الفائدة الذي سيحدده المجلس الفيدرالي الأمريكي، وكلما ارتفع سعر الفائدة كان التراجع في سعر الذهب أكبر، وأرجح أن يتراجع سعر الأونصة من 1156.05 دولار إلى 1125 دولارا.
وتثير مثل تلك التوقعات مخاوف كبار المسؤولين في صناديق التحوط، الساعين حاليا إلى تقليص احتياطاتهم من الذهب والفضة، وقد أشارت بيانات اللجنة الأمريكية للتداول المستقبلي للسلع إلى أن الاتجاه السائد لدى رؤساء مجالس تلك الصناديق خلال الأسابيع الستة الأخيرة، هو تقليص احتياطاتهم من سبائك الذهب واللجين.
والفضة ليست حاليا في وضع أفضل من الذهب، فخلال الأسبوع الماضي خسرت أونصة الفضة نحو 2 في المائة لتصل إلى أدنى مستوى لها خلال الأشهر الثلاثة الماضية، ومع هذا فإن بعض المختصين يعتقدون أن الفضة ربما تكون في وضع أفضل نسبيا من الذهب خلال هذا العام.
ويقول لـ "الاقتصادية"، روز كرنويل المختص في التحليل المالي في مصرف "إتش إس بي سي"، "إن تحسن الوضع النسبي للفضة في السوق الدولية للمعادن يعود في جزء كبير منه لتراجع قيمة الذهب"، مشيراً إلى أن المعروض من اللجين في السوق العالمية كمية محدودة، وزيادة الطلب يمكن أن تستهلك تلك الكمية، بل وتتجاوزها، كما أن البعض يعتبر الفضة مخزنا للقيمة بدلا عن الذهب إذا ارتفعت أسعاره، ونسبة سعر الذهب للفضة حاليا مرتفعة بشكل كبير، ومن ثم هناك مساحة كبيرة لأسعار الفضة للتحرك في اتجاه الارتفاع مستقبلا.
ومع هذا فإن السؤال الباحث عن إجابة: هل شراء الفضة يعد استثمارا جيدا هذا العام؟ البداية الطيبة للأسعار في شهر كانون الثاني (يناير) الماضي لم تستمر طويلا، فقد افتتح عام 2015 وسعر الأونصة 18 دولارا، ليسجل في حينها أعلى ارتفاع خلال خمسة أشهر، خاصة أن العام الماضي وتحديدا تشرين الثاني (نوفمبر)، تراجعت فيه الأسعار بشكل حاد، إلا أن البداية المشجعة لم تدم طويلا، لتتراجع الأسعار لاحقا، وتكشف مدى التذبذب في أسواق اللجين.
وأوضح لـ "الاقتصادية"، نيل كلايدر المضارب والمحلل المالي في بورصة لندن، أن الاستثمار في الفضة يجب أن يتم التعامل معه بحذر، لأنه لا يصلح لجميع المستثمرين لما يحمله من مخاطر، ويشير إلى أن جزءا كبيرا من الطلب على الفضة يعود إلى القطاع الصناعي.
وأضاف أن "طلب القطاع الصناعي على الفضة شكل 54 في المائة من إجمالي الطلب خلال العام الماضي، ويتضمن الطلب الصناعي الصناعات الإلكترونية والسيارات والمجوهرات، ومع هذا انخفضت الأسعار، لأن القطاع الصناعي يتحمل التذبذبات القوية في سوق الفضة، أما صغار المستثمرين، فهناك تشكك في قدرتهم على ذلك، فبمجرد انخفاض الأسعار سينتابهم الذعر وسيتخلصون مما لديهم من فضة، وهذا يعني تعرضهم للخسارة، إضافة إلى ضخهم كميات من الفضة في الأسواق، بما يؤدي إلى تراجع أكبر في السعر العام".
معادن أخرى أقل جماهيرية بين المستثمرين مثل النحاس والبلاتين والبلاديوم تبدو الصورة بشأن أسعارها ضبابية بعض الشيء، ما يثير تساؤلات حول الجدوى الاستثمارية فيها حاليا.
فالنحاس على سبيل المثال حقق بعض التحسن في الأيام الأخيرة جراء تأكيد الحكومة الصينية أنها ستحقق معدل النمو المستهدف هذا العام وهو 7 في المائة، إلا أن التحسن يكاد يكون طفيفا لا يذكر إذ بلغ 0.1 في المائة فقط، ووصل سعر الطن من النحاس 5865 دولارا.
ويعتمد وضع سوق النحاس العالمية على الطلب الصيني بالأساس، حيث تعد الصين أكبر مستهلك صناعي للمعدن الأحمر، ومع هذا فإن التحسن في سعر النحاس هذا الأسبوع، والزيادة التي حققها الأسبوع الماضي وبلغت 2.2 في المائة لا تنفي أن أسواق النحاس تعاني هي أيضا أوضاعا مضطربة.
وأشار لـ "الاقتصادية"، هاورد برايس الباحث في مجموعة مورجان ستانلي، إلى أن أسعار النحاس تراجعت بنسبة 40 في المائة منذ وصولها القمة قبل أربعة أعوام، وبصفه عامة فإن أسعار المعدن الأحمر تعد منخفضة حاليا، وهو ما يثير مخاوف المنتجين.
وأضاف أن "كبريات الشركات المنتجة قامت بتوسيع نطاق استثماراتها لقناعتها بأن الطلب سيرتفع نتيجة النمو في الاقتصاد الأمريكي واحتمالات النمو في الصين، ولكن منذ عام 2011 فإن طلب البلدين على النحاس انخفض، وأعتقد أن الأسعار ستأخذ في الارتفاع في المرحلة المقبلة، نتيجة مواصلة النمو في أمريكا، وتعهد القيادة الصينية بتحقيق معدلات النمو التي حددتها".
نيل براين المختص في بورصة لندن وأحد المتعاملين في تجارة النحاس يعطي الـ "الاقتصادية" صورة أكثر دقة حول تصوراته المستقبلية للأسعار مؤكداً أنها سترتفع في النصف الثاني من هذا العام، وأن جزءا من الارتفاع يعود إلى أن الإنتاج الأسترالي سيتراجع بما يراوح بين 60-70 ألف طن، "وإذا أفلح برنامج التيسير الكمي الأوروبي في إنعاش منطقة اليورو، ونجحت اليابان في الخروج من الركود التضخمي الذي تعانيه منذ سنوات، فأتوقع أن يزيد الطلب على النحاس، وترتفع الأسعار".
التراجع السعري أصاب البلاتين أيضا والمعروف بالمعدن الأبيض، لكن المثير للانتباه أن انخفاض أسعار البلاتين فشل في تحفيز الطلب على المجوهرات في الأسواق الصينية، وهذا عكس ما حدث عام 2900 عندما تراجعت أسعار المعدن الأبيض بشدة، ومثل ذلك حافزا كبيرا لتجارة المجوهرات الصينية التي ضاعفت من طلبها على البلاتين، وبلغت مستويات قياسية باستهلاك مليوني أونصة سنويا.
وكانت التقديرات المتاحة قد أشارت إلى أن تراجع الطلب على البلاتين ليس وليد اللحظة، وإنما تشهد أسواق المعدن الأبيض تراجعا منذ النصف الثاني من العام الماضي رغم أن الأسعار انخفضت 20 في المائة.
ويرجع البعض عدم زيادة الطلب على البلاتين في الصين إلى انخفاض معدلات النمو هذا العام، إلا أن آخرين يعتبرون ذلك مؤشرا على أن أسواق المعدن الأبيض ستواجه أوضاعا صعبة هذا العام أيضا، فمنذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي انخفضت الأسعار بنحو 7 في المائة لتبلغ الأونصة 1106.50 دولار، فيما يرجح آخرون أن يواصل المستثمرون في مجال البلاتين إحجامهم عن الشراء لقناعتهم بأن الأسعار ستشهد مزيدا من الانخفاض مستقبلا.
لكن بعض الاقتصاديين يذهبون في تفسير الانخفاض الراهن في أسعار عديد من المعادن، إلى التراكمات السلبية لعمليات التلاعب التي قامت بها مصارف أمريكية في الأسواق، فمن المعروف أن السلطات الأمريكية تجري حاليا تحقيقات مع عشرة مصارف كبرى، بشأن تورطها في عمليات احتيال في أسواق المعادن، وكانت السلطات الأوروبية المسؤولة عن تنظيم عمل المصارف، قد قامت بتحقيقات مماثلة ضد مصارف أوروبية، لكنها لم تمض فيها قدما نظرا لعدم كفاية الأدلة.
وأشار لـ "الاقتصادية"، الدكتور سيمون كوبر الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاقتصادية، إلى أن المدعي العام في وزارة العدل الأمريكية وجهات أخرى يحققون مع عدد من أكبر المصارف من بينها "إتش إس بي سي" و"مورجان ستانلي"، بشأن اتصالات غير مشروعة بينها لتثبيت الأسعار في أسواق المعادن، وهذا يعني التلاعب في كميات الطلب والتأثير في الطلب العالمي.
وأضاف كوبر أن "تلك الأساليب تخلق تراكمات في أسواق المعادن سواء من حيث الكميات أو من حيث إعطاء مؤشرات سعرية غير حقيقية للتجار والمستثمرين، وهذا إما أن يؤدي إلى فقاعة زائفه بشأن السعر، أو تراكم في المعروض، ما يدفع إلى انخفاض الأسعار في وقت لاحق، وهذا يمكن أن يكون سبب تراجع الأسعار في الأسواق العالمية للمعادن حاليا".
اقرأ أيضاً:
ضعف الدولار يحد من تدهور اسعار النفط
الذهب قرب أدنى مستوى في 3 أشهر