أغلب المستثمرين في الإمارات مهتمون بموضوع الشيكات، خصوصاً بالمجال العقاري الذي يقوم عليه اقتصاد بعض الإمارات كدبي، التي كادت أن تتحول إلى أكثر دولة تضم قضايا خاصة بالمستثمرين بعد الأزمة العقارية التي داهمت أغلب دول العالم خلال 2008، قبل أن يقوم المشرع الإماراتي بإسعافات سريعة خلال 2009 حيث تم تشكيل لجنة قضائية خاصة للفصل في الشيكات المتعلقة بالمعاملات العقارية، وأصبحت مختصة دون غيرها، بالفصل في شكاوى الشيكات المرتجعة المحررة من المشتري لصالح المطور العقاري، أو شيكات حررها منتفعو ومستأجرو العقارات طويلة المدة.
هذه اللجنة يمكنها إلغاء الشيك المرتجع الصادر لصالح المطور العقاري في حال ثبوت عدم أحقيته بمبلغ الشيك، أو إلزام محرر الشيك بكتابة شيك جديد يستحق بموعد جديد، أو إحالة الشيك إلى النيابة العامة في حال استحقاق قيمة الشيك، والنيابة العامة محضور عليها التحقيق في الشيكات قبل عرضها والنظر فيها من قبل اللجنة.
إن هذه اللجنة لم تحدث لمواجهة آثار الأزمة المالية، بقدر ما كانت لتلافي الأضرار التي سببها الاستخدام السيء للشيكات في غير الغرض المحدد لها.
أصل المشكلة
ينص قانون المعاملات التجارية الإماراتي على أن الشيك يجب أن يكون له مقابل أداء “في وقت” إصداره، أي ليس بتاريخ تقديمه للبنك، فالمبدأ ينص أن الشخص لحظة تحريره للشيك، يعلم أن لديه مقابل للأداء، فإن كان يعرف أنه لا يملك رصيد، فذلك يعتبر جرماً يستوجب العقاب، وهذا سبب التجريم أصلاً.
وينص القانون على أن: “يكون الشيك مستحق الوفاء في اليوم المبين فيه كتاريخ لإصداره”، وهذا يفهم منه أن التاريخ المبين فيه هو تاريخ الإصدار فعلاً، لكن التناقض يأتي بعد ذلك عندما يتابع القانون في المادة (617) فقرة (2) أنه: “ولا يجوز تقديم الشيك للوفاء قبل ذلك التاريخ”!.
كيف يمكن تصور أن يتم تقديم الشيك قبل تاريخ إصداره؟، هذا غير منطقي، لكن ذلك إشارة من المشرع بأنه يمكن تحرير تاريخ مؤجل، وبكلمات أخرى، الشخص الذي يحرر شيك ربما لا يكون لديه رصيد بلحظة تحرير الشيك كما يفترض، ولكنه يتوقع أن يكون الرصيد متوفراً في التاريخ الذي يحدده، وهذا أصبح وعداً بالسداد وليس سداداً لقيمة مبلغ معين، فهو ربما لا يملك الرصيد الآن لكن المهم أن يكون هناك رصيد بالتاريخ المحدد، فإذا لم يتوفر الرصيد في الوقت المحدد، هذا ببساطة دين مؤجل السداد يخضع لأحكام القانون المدني، وسبب التجريم، أي معرفة الساحب بعدم وجود رصيد عند تحريره للشيك، غير متوفر، لأن ذلك أمر لا يمكن تصوره، كيف يمكن تصور أن الساحب يعرف بعدم وجود رصيد لاحقاً، هذا أمر ليس مؤكد وسابق لأوانه على الأقل، ولهذا لا يعتبر جرماً جزائياً.
إن مشكلة الشيكات همّ يؤرّق المشرع والمستثمر على السواء، حيث تدل الإحصائيات أن نحو 75% من قضايا مراكز الشرطة، هي قضايا الشيكات، أكثر من نصف عدد المسجونين المتورطين في جريمة الشيكات، وأحد العوامل التي تدعو للاعتماد على محاكمة جنائية في قضايا الشيكات في الإمارات، وفقاً لدراسةٍ أجرتها “جامعة ويلز البريطانية”، هو العدد الكبير للمستثمرين الأجانب المقيمين الذين لا يمكن ضمان شيكاتهم بالممتلكات مقارنةً بالمواطنين.
البعض يعتقد أن حل المشكلة هو إلغاء الشق الجزائي، إذ أجرت “وزارة العدل” الإماراتية مؤخراً دراسة حول إمكانية معاملة الشيكات المرتجعة وفق القانون المدني، وإلغاء الشق الجنائي المعمول به حالياً، لكن ذلك لم يتم اعتماده بعد.
ويحتج كثير ممن يؤيدون إلغاء الشق الجنائي من عقوبة الشيك دون رصيد، لأن الدول الصناعية المتقدمة والعريقة في الخدمات المصرفية مثل بريطانيا، ألمانيا، سويسرا، والولايات المتحدة وغيرها، تأخذ بهذا النظام ولا تفرض عقوبة جنائية على محرر الشيك دون رصيد.
من جهةٍ أخرى، فإن إلغاء الشق الجزائي ربما يزيد تعقيد المسألة، فجرم إصدار شيك دون رصيد يجب أن يكون محل عقاب لمرتكبه، حيث يقوم الشيك بوظيفة النقود في التعامل، ويُحقّق مصلحة اجتماعية هامة، لأنه يخفف من مخاطر حمل النقود ومن تداولها ويشجع على إيداعها في المصارف واستثمارها اقتصادياً، وهذا يستوجب توفير الطمأنينة والثقة بنفوس المتعاملين به.
ويُعتبر الرصيد أهم الضمانات التي يعتمد عليها حامل الشيك للحصول على حقه، لذلك فرض القانون عقوبة على من يسحب شيكاً دون رصيدٍ كافٍ لتغطية قيمته، أو منع الحامل من الحصول على قيمته.
يعتبر آخرون أن الحل يكمن في إلغاء التعامل بالشيكات آجلة الدفع، واعتبارها معدّة للدفع عند الاطلاع عليها أياً كان التاريخ المحدد في متن الشيك، ويرى القائلون بهذا الرأي أن دولة مثل الإمارات تمثل نموذجاً للتقدم السريع في جميع المجالات، حريٌّ بها أن تطبّق قوانين عصرية وتستخدم الأدوات التجارية الصحيحة، فلماذا لا تستخدم الكمبيالة مثلاً بتسديد دفعات للمطور العقاري، ويُطبّق عليها أحكام الكمبيالة، أي استخدام الأداة المناسبة في المكان المناسب للغرض المناسب، فإذا كان للشيك شكلا معيناً ويسحب على بنك معروف واطمأن الناس للتعامل به، فيمكن للكمبيالة أن تكون صادرة بشكلٍ محدد كالشيك ويمكن سحبها على البنك أيضاً، ونصّ قانون المعاملات التجارية الإماراتي على أنه: “… تسري على الشيك أحكام الكمبيالة بالقدر الذي لا تتعارض فيه مع ماهيته”.
هذا الحال لا يقتصر على الإمارات، حيث تشير الإحصائيات إلى أن نحو 80% من حجم التجارة المحلية في دول الخليج التي لا تتم عن طريق الدفع النقدي يتم دفعها بالشيكات، فالشيك يستخدم أداة دفع ووسيلة ضمان للمدفوعات الفورية والآجلة معاً، وهذا ما دعا بعض دول الخليج ”الكويت وعُمان” لتبنّي مبدأ قانوني يقضي بتجريد الشيك من حصانته الجزائية إن كانت دوافعه حسن النية، رغم أن الموضوع ما زال محل خلاف كبير بين مؤيد ومعارض، حيث أن دول الخليج العربية كافة تعاني مشكلة الشيكات دون رصيد.
ماهية الشيك والفرق بين أداة الائتمان وأداة الوفاء
أداة الوفاء هي الورقة التجارية مستحقة الدفع عند الاطلاع عليها، أما أداة الائتمان فهي سند دين آجل تدفع قيمته عندما يحين موعده.
القانون الإماراتي يعتبر الشيك أداة وفاء وائتمان في آنٍ معاً، في محاولةٍ للاستفادة من حسنات كلا المفهومين، فالشيك يكون أداة ائتمان عند تحريره، ويصبح أداة وفاء عند حلولٍ آجله، لكن ذلك يُعتبر تناقضاً يخالف الأساس الذي وُجد الشيك من أجله، فالشيك أصلاً مخصص للدفع حين الاطلاع عليه، لأنه يستعمل كبديل للورقة النقدية، وعندما يصبح آجل الدفع يصبح سند دين عادي. والفرق بين هذا وذاك، بأن الإخلال بتسديد الشيك يُعتبر جرماً جزائياً يعاقب مرتكبه بالسجن، أما الإخلال بتسديد دين عادي، فالمخالف لا يعاقب بالسجن، لأن الذمة المالية أصلاً مستقلة عن شخصية الإنسان، ولم يعد مقبولاً أن يسجن شخص لعدم الوفاء بدين مالي، فالسجن مخصص للمجرمين، وهذا يتفق مع ما نصّت عليه أحكام قانون الشيكات الموحد موضوع (اتفاقية جنيف 1931)، إذ يعتبر الشيك أداة وفاء فقط، أي ليس سند دين، بل هو ورقة تعادل تماماً الورقة النقدية، ويمكن لحاملها استبدالها بالنقد حال الاطلاع عليها من البنك المسحوب عليه، واستعمال الشيك في غير الغاية التي وُجدَ من أجلها وكأداة ائتمان، في ظل تشريع يعاقب ساحب الشيك إذا تبيّن أنه دون رصيد، يبتعد كثيراً عن العدالة التي بُني الشيك على أساسها، والعدالة لا ترضى أن يحاسب ساحبه أمام القضاء الجزائي.
إن هذا التعارض، دعا المشرع القطري في وقتٍ سابق لتعديل القانون وإلغاء العمل بالشيكات الآجلة، حيث يكون الشيك مستحق الوفاء بمجرد الاطلاع عليه، وكل بيان مخالف لذلك يُعتبر كأن لم يكن، على أن يسري هذا التعديل بعد ثلاث سنوات من تاريخ إصدراه، إلا أن المشرع القطري عاد وعدَلَ عن تعديله قبل سريان التعديل بأيام ليستمر بالعمل بالشيكات الآجلة إلى أجلٍ غير مسمى، والسبب أن كثيراً من الأفراد والشركات كانت تتعامل مع الشيكات باعتبارها أداة ائتمان طويلة الأجل وإلغاء ذلك سيتسبب بأزمة مصرفية، خصوصاً أن البنوك اعتادت شراء الديون عن طريق تسديد قيمة الشيك لمستحقه قبل حلول أجله، وتعود لتحصيل قيمته لقاء نسبة معينة من الفائدة.
لكـن الحق بيّن والباطل بيّن، فوظيفة الشيك الوحيدة التي وُجد من أجلها، هي ليكون أداة وفاء ولتسهيل سحب النقود المودعة بالبنوك كأداة تحل محل النقود، وتحقيق فوائد اقتصادية منها إقلال دوران النقود الورقية لتخفيف التضخم، وتحقيقاً لهذا الغرض، سارعت عدة دول إلى حماية الشيك جنائياً تدعيماً للوظيفة الوحيدة التي خُلق من أجلها.
وحددت لمرتكب جرم إصدار شيك دون رصيد عقوبة رادعة تصل إلى السجن خمسة أعوام في بعض الدول، (ثلاثة أعوام في القانون الإماراتي) وهناك في ملفات الإنتربول الدولي الكثير من القضايا التي يطلب فيها مجرمون ارتكبوا جرم إصدار شيك دون رصيد.
وعكس ذلك، لم تشأ دول أخرى هذه الحماية الجنائية، ووضعت ضوابط وجزاءات مدنية في حالة إصدار الشيك دون رصيد، فمثلاً المشرّع الماليزي، يحرم مرتكب الجرم من استصدار شيكات لفترة زمنية معينة.
وناقشت البنوك سابقاً، إيجاد البديل وتسهيل إجراءات التعامل بالكمبيالة ليُقبل عليها الناس ويثقون بها في تعاملاتهم، ويبقى استقرار المعاملات على ما هو عليه، ولتكون بديلاً عن الشيك وهي أصلاً سند دينٍ آجل الدفع، والشيك يؤدي الدور نيابةً عنها، مستفيداً من سلاحه الجزائي المسلّط بوجه كل من يخل بتسديد الشيك في موعده، هذا لا يختلف عن القوانين الرومانية القديمة، التي كانت تعطي الحق للدائن بأن يسجن مدينه، أو أن يقتطع جزءاً من لحمه مقابل الوفاء بالدَّين.
وفي السياق ذاته، فإن استعمال الشيك الآجل في قطاع التجارة الداخلية لا يتفق والأسس القانونية السليمة، حيث هناك من الأوراق التجارية المتخصصة كالكمبيالة والسند لأمر والسند الأذني، وليس الأمر بحاجة إلي الشيك الآجل اللهم إلا في إرهاب المدين بالجزاء الجنائي كنوع من أنواع الإكراه البدني الذي ألغته الأنظمة المتقدمة وحرمته التشريعات السماوية.
يُذكر أن الإمارات ألغت الشق الجنائي للشيك بالنسبة لمواطنيها واستثنت الأجانب من هذا الإعفاء، على اعتبار أن ضمانات السداد لدى المواطنين غير متوفرة لدى الأجانب ولا يخشى من هروبهم خارج البلاد.
إن التخوّف من إلغاء الضمانة الحالية للشيك بالإمارات ودول الخليج، لا يُبرر استعماله لضمان الديون في وقت يوفر القانون آليات كثيرة لضمان الحقوق، والإمارات ليست عاجزة عن ترتيب الحلول الناجعة لضمان حقوق الدائنين دون اللجوء لسجن المدين، فالخشية من هروب الأجنبي، تحل بمنع سفره حتى يجد كفيلاً يضمن السداد أو يقدم ضمانات مالية، كما أن الحل كما ذكرنا هو ليس بإلغاء الشق الجزائي، بل بإلغاء استعمال الشيك كسند دين، واستعمال الأدوات القانونية والتجارية الصحيحة التي تضمن حقوق الدائن ولا ترتب على المدين التزامات جزائية.
اقرأ أيضاً:
تعلم أساسيات الانضمام والبدء بالتداول في أسواق الفوركس