منذ أن أقدم البنك المركزي الصيني على خفض قيمة العملة الوطنية اليوان، والسماح لآليات السوق بالقيام بدور أكبر في تحديد قيمة العملة الصينية، وناقوس الخطر بشأن اندلاع حرب عملات دولية يدق في الأفق.
وخلال الأيام الماضية ارتفعت حدة الأخطار، ودخلت الكثير من الدول الآسيوية في حرب عملات فعلية، دفعت بمسؤولين دوليين إلى طلب إعلان هدنة في القارة، محذرين من أن اتساع نطاق الحرب لربما يدفع الاقتصاد الدولي إلى أزمة مالية واقتصادية طاحنة، تتجاوز في خطورتها وحداتها أزمة عامة 2008.
ويتهم بعض المختصين الصين بأنها أول من أطلق رصاصة في تلك الحرب، أدت إلى انخفاض التينغ الكازاخستاني بنحو 24 في المائة من قيمته في مواجهة الدولار، ودفعت هذه الخسارة بالبنك المركزي في كازاخستان إلى السماح لقوى السوق بتحديد قيمة التينغ.
أما في جنوب إفريقيا فتراجعت قيمة الراند في مواجهة الدولار إلى أدنى مستوى له في 14 عاما، ولعملة الماليزية الرانجيت سارت على المنوال نفسه، ووصلت إلى أدنى مستوى لها في 17 عاما. وخفضت فيتنام قيمة عملتها الوطنية في مواجهة الدولار 1 في المائة، وهذا ثالث تخفيض لقيمة العملية الفيتنامية الدونج في عام واحد.
والليرة التركية كانت واحدة من أسوأ عملات الاقتصادات الناشئة أداء، إذ فقدت 5 في المائة من قيمتها في مواجهة الدولار منذ خفضت الصين اليوان، وبلغ التراجع الكلي في قيمة الليرة خلال عام نحو 25 في المائة.
لكن إلى أي مدى يتفق الاقتصاديون والمختصون في مجال العملات على تحميل الصين بمفردها مسؤولية الوضع الراهن في سوق العملات؟
فران مار المختصة في مجال أسعار العملات والاستشارية في المجموعة الدولية للاستثمار تعتبر أن الصين تتحمل جزءا كبيرا من الوضع الراهن، لكن يصعب إلقاء المسؤولية بأكملها على بكين.
وتعلق لـ "الاقتصادية" قائلة: "الوضع الدولي في سوق العملات قبل قرار الصين بخفض قيمة اليوان، كان هشا وقابلا للانفجار، القرار الصيني رفع الغطاء عنه، ودفعه للانفجار".
وتضيف "علينا أن نتذكر أنه منذ كانون الأول (ديسمبر) الماضي قامت 22 دولة بخفض قيمة عملتها بنحو 4.5 في المائة في مواجهة الدولار لدعم صادراتها، وقبل القرار الصيني وافق المسؤولون في 20 دولة على الإضعاف المتعمد لقيمة عملتهم الوطنية لتعزيز النمو المحلي، واعتبروا أن ذلك إجراء اقتصادي مقبول، لكنهم رفضوا خفض قيمة العملة الوطنية لتشجيع الصادرات، وهذا كلام لا يحمل أي معنى اقتصادي، كما أن الين جانيت محافظة مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي رفضت مقترحات الكونجرس الأمريكي بفرض عقوبات ضد الدول التي تقوم بالتلاعب في قيمة عملتها الوطنية، ومن ثم لا يمكن تحميل الصين المسؤولية برمتها".
الدكتور كريس بيفينز أستاذ النقود والمصارف في جامعة إكسترا يحمل واشنطن وصندوق النقد مسؤولية ما يصفه بحرب عملات الاقتصادات الناشئة.
ولـ "الاقتصادية" يعلق قائلا "الوضع الراهن في سوق العملات الدولية هو حرب عملات في الاقتصادات الناشئة خاصة الآسيوية، التي تتنافس على زيادة صادراتها بخفض قيمة العملة الوطنية، إذ كانت بعض الشظايا قد سقطت على تخوم الاقتصادات الكبرى، إلا أن لهيب الحرب لم يصل بعد لتلك الاقتصادات".
ويستدرك قائلا "صندوق النقد والكونجرس الأمريكي يضغطان على الصين منذ سنوات لتحرير عملتها الوطنية لأنهما يعتقدان أن الصين تقيم عملتها بأقل من قيمتها الحقيقية لزيادة الصادرات، وهذه في الغالب حقيقة يصعب إنكارها، لذلك تحرير العملة الصينية أمر مهم".
ويقول بيفينز "التوقيت لربما كان أشد أهمية وخطورة، والقرار الصيني اتخذ في الوقت الخطأ، إذ كان يجب أن يتخذ عندما يكون الاقتصاد الصيني قويا ومعدلات النمو والصادرات مرتفعة وليس العكس، وهذا هو السبب تحديدا في حرب العملات الجارية بين الاقتصادات الصاعدة خاصة في آسيا".
ويشير بعض المحللين الاقتصاديين إلى أن عامل المفاجأة لعب دورا مهما في تفجير الوضع الراهن في سوق العملات الدولية.
فالقرار الصيني بخفض اليوان كان مفاجئا للأسواق الدولية التي لم تكن مستعدة له، بل على العكس تماما فقد كانت الأنظار تركز في اتجاه مختلف، وهو اقتراب موعد رفع الفيدرالي الأمريكي لأسعار الفائدة في الولايات المتحدة، وكان البعض يراهن على أن تلك الخطوة ستزيد من نصيب البلدان الأخرى في التجارة الدولية على حساب الولايات المتحدة، التي كانت أسعار صادراتها سترتفع، إلا أن الخطوة الصينية قلبت الأسواق رأسا على عقب.
ويعتقد الداعمون لتلك الرؤية أنه يجب الانتظار بعض الوقت لإصدار موقف نهائي بشأن هل يواجه الاقتصاد العالمي حرب عملات فعلا أم أن الأمر لا يتجاوز تقلبات عنيفة لكنها مؤقته بين عملات الأسواق الناشئة التي تخشى أن تأخذ الصين من حصتها الدولية في التجارة العالمية، وليس من نصيب البلدان الرأسمالية عالية التطور.
وحول حرب العملات والمستقبل الاقتصادي يعلق لـ "الاقتصادية" التن ماليون المختص الاقتصادي والاستشاري في رويال بنك أف اسكتلندا قائلا "التغيرات الراهنة والصراع المحتدم في أسواق العملات، سيؤديان لفترة طويلة إلى إضعاف مجموعة مستقرة من الروابط سواء بين بعض العملات أو بين اقتصادات بعض الدول خاصة في آسيا".
وأضاف ماليون "أعتقد أن بعض الاقتصادات الآسيوية ستسعى إلى فض الارتباط في العلاقات الاقتصادية التقليدية التي تربطها بالصين، وسنشهد تشكلا لروابط جديدة بين عملات آسيا واقتصاداتها، وربما يتم تعزيز هذه الروابط إذا ما ضخت قوى دولية مثل الولايات المتحدة واليابان استثمارات مكثفة لدعم الوضع الجديد".
ويفضل اقتصاديون في بريطانيا وصف الوضع الراهن في أسواق العملات الدولية باعتباره "رد فعل مبالغا فيه من قبل أسواق العملات" على تخفيض الصين لليوان.
لكنّ الاقتصاديين لا يعتبرون أن الوضع بلغ بعد مبلغ حرب العملات طالما ظل الأربعة الكبار (الدولار واليورو والاسترليني والين) غير مشاركين في المعركة أو متأثرين بها بشكل قوي يؤثر في معدلات النمو الاقتصادي لديهم.
ويؤكد أنصار هذا الاتجاه أنهم لا ينفون أن الوضع الراهن لدى عملات الأربعة الكبار محتقن، وأن بعضهم قد بدأ بالفعل الاصطدام بآخرين، وربما كان أبرزهم حاليا الين الياباني واليورو الأوروبي، ويرشحون أن يسعى محافظو البنوك المركزية في تلك البلدان إلى التدخل السريع للحد من تدهور الوضع دوليا، وإلا فإن الاقتصاد العالمي معرض لـ "ضربة قاصمة".
ولـ "الاقتصادية" يعلق الدكتور شميم برايس العضو في الوحدة الاقتصادية للاتحاد الأوروبي قائلا "الخطوة الصينية ربما تدفع المجلس الاحتياطي الفيدرالي إلى تأجيل قراره برفع سعر الفائدة، ورغم ما تتضمنه خطوة خفض قيمة اليوان من تداعيات سلبية على الدولار وعلى الاقتصاد الأمريكي، إلا أن الدولار لن يتأثر كثيرا في تلك الحرب، لسبب بسيط أنه هو المعيار الرئيس للعملات بوصفه عملة الاحتياطي العالمي".
ويضيف قائلا "لكن الوضع يختلف بالنسبة لليورو والين، فكلتا العملتين في مرحلة مختلفة من سياسات التيسير النقدي، بهدف إضعافهما لزيادة الصادرات خاصة إلى الصين، وخطوة المركزي الصيني تسير في اتجاه معاكس ولا تساعد الاتحاد الأوروبي أو اليابان".
ويعتقد الدكتور شميم بأنه لن يكون أمام الاتحاد الأوروبي أي بديل آخر لتفادي دخول في حرب عملات غير تمديد فترة سياسة التيسير الكمي إلى ما بعد أيلول (سبتمبر) 2016.
أما بالنسبة للين فإن طوكيو كانت تخطط أن يتراوح معدل سعر الصرف الين للدولار الأمريكي هذا العام بين 121 و123 ينا للدولار، إلا أن تحقيق هذا المعدل سيكون شديد الصعوبة إذا انخفض اليوان الصيني بأكثر من 6 في المائة من قيمته خلال هذا العام، إذ سيتطلب ذلك إجراءات استثنائية من قبل البنك المركزي الياباني، وهو ما لا يبدو أن اليابان جاهزة بعد للقيام به.
اقرأ أيضاً:
الدولار يرتفع بقوة مقابل عظم العملات الرئيسية
ارتفاع الدولار يضرب صادرات القمح الأمريكي
الريال السعودي يهوي لأدنى مستوى امام الدولار لأول مرة منذ 6 سنوات