الإنجازات الاقتصادية وحدها لا تكفي لتفسير نجاح تركيا

تاريخ النشر: 10 أكتوبر 2011 - 08:42 GMT
النجاح التركي يتجاوز الاقتصاد ليشمل النظام السياسي العقلاني والديمقراطية واقامة المجتمع المدني ومؤسساته الفاعلة
النجاح التركي يتجاوز الاقتصاد ليشمل النظام السياسي العقلاني والديمقراطية واقامة المجتمع المدني ومؤسساته الفاعلة

يعيد الكثير من المحللين النجاح الكبير الذي حققه حزب العدالة والتنمية في الانتخابات التركية الاخيرة الى قدرته على توجيه تركيا عبر عقد من النجاح الاقتصادي المتميز. ومع أنه جرت العادة النظر للمؤشرات الاقتصادية باعتبارها أفضل مقياس لمدى النجاح الذي تحققه الدول، الا أن تركيا كسرت هذه القاعدة في ظل حكومة طيب رجب أردوغان، وأظهرت بأن السياسات القوية الواثقة من نفسها والضامنة للاستقرار- وتخليص البلاد في الحالة التركية من ويلات الانقلابات العسكرية وتعزيز التجربة الديمقراطية - هي التي تولد الاقتصاد القوي وليس العكس.

وفي الحالة المصرية، نجد أنه بالرغم من حالة الفقرالتي يكتوي بها قطاع واسع من السكان فقد انطلقت الثورة الشبابية من خلفيات اقتصادية متباينة، وبالنسبة للعديدين هناك فقد بدت الحرية، أكثر من المطالب الاقتصادية، هي المحرك الفعلي للانتفاضة على النظام. وهنا لا تبدو الحالة التركية مختلفة.

والواقع أن النجاح التركي لايمكن اختزاله في عقد واحد من النمو الاقتصادي والاستقرار السياسي، وفوق ذلك فان عملية تحديث تركيا لا ترتبط حصرياً بالنجاحات التي حققتها البلاد في عهد حزب العدالة والتنمية، مع عدم التقليل من دور الحزب في عملية التغيير الجذرية التي مرّت بها البلاد في ظل حكم الاسلاميين. فمسيرة التغيير التي اكتسبت زخماً هائلاً في عهد أردوغان بدأت قبل ذلك بأجيال، وتحديداً على يد أبي تركيا الحديثة مصطفى كمال أتاتورك.

بالامكان القول ان وضع تركيا في أطر سياسية وثقافية واقتصادية- اجتماعية شكّل أحد اعظم التحديات التي واجهت الساسة الأتراك المعاصرين. فعلى مدى عقود، وتركيا حائرة بين روابطها الاسلامية والعربية من جهة، وتوجهاتها الغربية من جهة ثانية، ويبدو أن النزعة الثانية كانت هي الغالبة في تشكيل الهوية التركية على المستويين الفردي والجماعي، وتركت بالتالي آثارها القوية على سياسات أنقرة الخارجية لفترة طويلة. وحتى في مرحلة التذبذب في الهوية، استطاعت تركيا انتزاع دور اقتصادي وسياسي مهم وحققت انجازات على مستوى تحقيق السيادة وعرض نفسها كقوة اقليمية. وفي السبعينيات، عندما بدأ الاسلام السياسي يفرض نفسه على الساحة، كانت تركيا تعيش عملية اعادة اكتشاف نفسها، حيث شرع العديد من الساسة والجماعات مناقشة فكرة النهوض بالاسلام السياسي لمستوى جديد كلياً.

الواقع أن عملية التغيير التي وضعت تركيا في مسار جديد بعيداً عن كونها : مجرد عضو في الناتو من الدرجة الثانية تسعى جاهدة لربط نفسها بالغرب المتردد في القبول باحتضانها، بدأت على يد الزعيم الاسلامي الراحل د. نجم الدين أربكان، الذي ترأس الحكومة لفترة قصيرة بين عامي 1996-1997. ثم جاءت انتخابات 2002 التي فاز بها حزب العدالة والتنمية لتعيد الحياة لجهود أربكان التي أجهضها العسكر لسنوات، وذلك ببروز قيادة سياسية شابة جديدة لا تزال تقود نهضة تركيا الحديثة منذ ذلك الحين، خاصة وأن الاتراك السعداء بما حققته بلادهم من انجازات منذ وصول الاسلاميين للسلطة قرروا التجديد لهم لفترة حكم ثالثة مرشحة لأن تشهد المزيد من النجاحات الاقتصادية والسياسية بل والدستورية.

تبدو تركيا الآن نموذجاً يحتذى ليس في مجال تحقيق الاستقرار الداخلي فحسب بل يمكن اعتبارها نموذجا اقليميا ربما يكون مثالياً للتطبيق في الدول المجاورة، واسهاما مهما في عصر الثورات العربية والتحولات السياسية المستقبلية. من المهم عدم حصرالتعامل مع التجربة التركية من منظور الأرقام والبيانات الاحصائية المتعلقة بالانجازات الاقتصادية. فهناك العديد من الدول الغنية جداً الا أنها تفتقر للاستقرار السياسي، فالنجاح التركي يتجاوز الاقتصاد ليشمل النظام السياسي العقلاني والديمقراطية واقامة المجتمع المدني ومؤسساته الفاعلة. صحيح أن المؤشرات الاقتصادية الجيدة واعدة بطبيعتها، الا ان ثباتها رهن بوجود قيادة تتحلى بروح المسؤولية والقدرة على توجيه النمو وتوزيع الثروة وتحقيق الاستقرار السياسي.