ان لأزمة الرأسمالية التي اندلعت تزامنا مع إفلاس عام 2008، علاقة وثيقة بتلك الأحداث التي تبدو منفصلة، فخلال فترة الازدهار الطويلة التي استمرت منذ 1980 وحتى 2008 تجاهل الفكر السائد مبادئ الاقتصاد السياسي، التي أسس لها آدم سميث، وكارل ماركس، وجون ماينارد كينز، وبدلا من ذلك حصلنا على سياسات ترشيد الإنفاق وآيديولوجيا السوق الحرة وأفكار ألان غرينسبان البارعة حول «الاقتصاد الجديد» بل وحتى دعاية الصين المتواصلة حول قدرتها على حكم العالم والحفاظ على الرخاء العالمي، واليوم نستطيع أن نرى بوضوح كيف ميزت أزمة 2008 و2009 نهاية حقبة زمنية وبداية أخرى ما زالت غير واضحة المعالم.
كان لدى سميث، الذي يعد أبا الرأسمالية الحديثة، قناعة بأن المؤسسات العامة ضرورية للحصول على سوق اقتصادية تعمل بشكل جيد، ولكننا نتذكر ماركس اليوم، ليس لتنبئه بانهيار الرأسمالية، ولكن لتحليله الذي يفيد بأن «التناقض» بين رأس المال والعمل سوف يؤدي إلى أزمات سياسية واقتصادية متكررة، وكذلك نزاعات اجتماعية، وما زال لكينز أهمية خاصة لأنه يذكرنا دائما بأن أزمات الرأسمالية لن تنتهي.
إرث مرّ
أثبتت أزمة 2008، خواء ادعاءات السياسيين والاقتصاديين في الثمانينيات من القرن الماضي، وما بعدها، بأن الاستقرار الدائم والازدهار سوف يأتيان كنتاج لمعدل التضخم المنخفض، والأسواق الحرة والعولمة المبدعة، فقد مضى ربع قرن من التفكير الاقتصادي الخطأ، تاركا لنا إرثا ثقيلا ومرا، يتضمن الحاجة لتقليص ديون متراكمة لمدة 25 عاما، وكذلك تقليص الخسائر بسبب إنشاء نظام الائتمان، وخسائر الإسكان والخدمات المالية التي تعد عوامل أساسية للنمو، هذا إضافة إلى تزايد عدم المساواة في الدخل وردود الفعل الشعبية المعارضة والرافضة للنخب السياسية والاقتصادية، وصدمت تلك الأزمة النظام السياسي والاقتصادي الراسخ على نطاق واسع لم يحدث منذ ثلاثينيات القرن الماضي، فقد بدأ نسيج العولمة، الذي تم نسجه حول ما يسمى توافق، واشنطن في التآكل.
في ضوء ذلك، لا تبدو العديد من التطورات الدولية التي حدثت عام 2011 عشوائية على الإطلاق، وربما كان من المتوقع أن تصبح الحلقات الأضعف في النظام العالمي هي الأكثر عرضة للخطر، وبالتأكيد تعد منطقة الشرق الأوسط حلقة ضعيفة على الأقل لأن دولها لم تكن مرتبطة بقوة بالعولمة الصناعية والمالية إلا عن طريق النفط.
وما لا شك فيه أن هذه الأزمة قد استنزفت القوة الاقتصادية للولايات المتحدة وشرعيتها، وهو العامل الذي عززته قوة الصين البازغة، ففي الوقت الذي تواجه فيه الولايات المتحدة أزمات اقتصادية وديموغرافية، وأزمات موازنة وأزمات شعبية حول دورها وسلطتها العالميين، تحول «التراجع الأميركي» من نظرية هامشية إلى حكمة تقليدية في غضون سنوات قليلة.
وربما تكون تلك الرؤية قصيرة المدى، لكن الولايات المتحدة في موقف ضعف في الوقت الحالي كما أنها تتعرض لضغوط متزايدة لاستعادة وضعها العالمي، وقد تجلى ذلك في قرارها، بعد تردد، بتأييد إزاحة حسني مبارك عن السلطة في مصر والتهديد بوقف المساعدات المالية إن لم يتنح، ومما لا شك فيه أن هذا التراجع في النفوذ الأميركي أدى إلى زيادة جرأة معارضي الأنظمة في أماكن أخرى والمطالبة بخلع حكامهم، كما حدث في تونس واليمن.
والعوامل التي أدت إلى الربيع العربي كانت موجودة قبل أن يحدث هذا التراجع الأميركي، فعلى مدى أكثر من عقدين، كان متوسط دخل الفرد في دول الشرق الأوسط منخفضا ومتدنيا باستثناء دول النفط قليلة السكان، وقد بلغت معدلات البطالة نحو 25 في المائة في عدة أجزاء من المنطقة، وأوضحت الإحصائية أن هذه النسبة ترتفع بشدة عند الفئة العمرية التي تقل أعمارها عن ثلاثين عاما، وقد اشتعلت الشرارة لتصبح ثورة بسبب الارتفاع غير المسبوق في أسعار المواد الغذائية والطاقة، لذا نستطيع أن نلمس آثار النظم الاقتصادية الغربية المتأزمة والديون التي تعانيها.
وقد استجاب البنك الاحتياطي الفيدرالي وغيره من البنوك المركزية لتبعات الأزمة المالية، من خلال تبني سياسات التحفيز الطارئة المعروفة باسم «التيسير الكمي» التي اشترى عبرها الاحتياطي الفيدرالي كميات كبيرة من الأصول المالية المدعومة بالقروض العقارية وغيرها، لتخفيف التعطل الكامل للأنظمة المصرفية.
وفي نوفمبر (تشرين الثاني) 2010 وضع الاحتياطي الفيدرالي مرحلة جديدة من «التيسير الكمي» حيث قرر أن يشتري 600 مليار دولار من سندات الخزانة الأميركية في يونيو (حزيران) 2011 للمساعدة على حفز الإقراض والإنفاق لدى العائلات أو الشركات، وعلى الرغم من أنه من الصعب رصد تأثير ذلك البرنامج على أسعار البضائع العالمية، فإنه بلا شك ساهم في ارتفاع أسعار الغذاء التي كانت عاملا محوريا بالنسبة للحركات الثورية، وتقلل عملية طباعة الأوراق النقدية من الثقة في قيمتها حتى بالنسبة للدولار الأميركي، كما أنها تدفع المستثمرين والشركات إلى شراء الأصول الحقيقية بما في ذلك المعادن، والطاقة، والبضائع الزراعية لتكون ضامنا ضد خسائر العملة ومخاوف ارتفاع التضخم.
تحت السيطرة
كما كان لعواقب أزمة الرأسمالية أصداء في الصين التي كانت المستفيد الأكبر من النظام السياسي والاقتصادي قبل الأزمة، ولكن الأزمة السياسية في الصين ما زالت تحت السيطرة حتى الآن، فقد أثبتت مظاهرات «الياسمين» الحقوقية في بداية العام الحالي عدم فعاليتها، كما أخفقت الاضطرابات المرتبطة بأسعار الغذاء كذلك، إلا أن هناك قضايا أكبر مثل الاستقرار الاقتصادي والشرعية السياسية ما زال على الصين مواجهتها.
وقدم نموذج الصين الرأسمالي نجاحا اقتصاديا غير مسبوق خلال الربع الأخير من القرن، لكن العديد من العيوب ظهرت في ذلك النموذج، فقد أثر الانخفاض في الطلب الغربي على الصناعات الصينية المصدرة في 2008، 2009 وانخفضت الصادرات نحو الثلث سنويا حتى الربع الأول من السنة المالية 2009، وقد أغلقت الآلاف من المصانع في بيرل ريفر ديلتا، كما يقال إنه قد تم إجبار نحو 20 مليون عامل مهاجر على العودة إلى المناطق الريفية نظرا لعدم وجود فرص عمل.
وسرعان ما تعافت الصين نظرا لبرنامج الحفز الذي يقدر بنحو 14 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، وتحسن الاقتصاد العالمي خلال العام الماضي ولكن المصدرين يواجهون حاليا عالما مختلفا تماما متأثرا بتقلص الاستهلاك الغربي وآفاق النمو، إضافة إلى أن انفجار أزمة الائتمان في 2008 وتقلص الاستثمارات والإنفاق في العقارات، كل ذلك عمل على بذر بذور التضخم الذي يتزايد ارتفاعا، وربما تتأجل الاضطرابات التي سوف تنجم عن ذلك حتى يتم تغيير قيادة الحزب الشيوعي الصيني في 2012، لكن اقتصاد الصين يتباطأ بالفعل حتى وصل إلى معدل نمو 8 في المائة.
ومن نواحي عدة، فإن مأساة القطارات ذات السرعة الفائقة في يوليو (تموز) الماضي في خط بكين ـ شنغهاي الجديد، يمكن أن تشابه وضع اقتصاد الصين، فهو سريع جدا وذو تصميم (رأسمالي) يحتوي على أخطاء سوف تؤدي عاجلا أم آجلا إلى حادثة، وهناك بالفعل إشارات قوية على أن جودة الاستثمارات والتمويل الاستثماري تتراجع. وربما تمنح تلك التوجهات مصداقية لتنبؤ ماركس بأن ازدهار الاستثمارات، الضروري في الرأسمالية، سوف ينتهي بالإفراط في الإنتاج وتناقص الاستهلاك، وبالتالي نشوب نزاعات اجتماعية.
وأمام الصين وقت محدود لإحداث تغيير سياسي واقتصادي راديكالي، فيجب أن تعمل على تقليص سلطة وامتيازات الشركات المملوكة للدولة، والمناطق الساحلية والنخب، كما يجب أن تعمل على تقليل التركيز على الاستثمار الرأسمالي الذي يمثل حاليا 50 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، كما يجب أن تضع على قائمة أولوياتها حفز الاستهلاك المحلي الذي يمثل نحو 35 في المائة من إجمالي الناتج المحلي، وتهتم بتوزيع أكثر عدالة للدخل، وتوفير فرص عمل أفضل لعدد المتخرجين السنوي الذي يبلغ 6 ملايين، ومنح حقوق للمهاجرين الريفيين والقرى المهملة.
وإذا لم يحدث ذلك التغير في القريب العاجل، سوف يتعرض الاقتصاد الصيني إلى انفجار ائتماني واستثماري سوف يسفر عن تباطؤ للنمو، وهو ما يمكن أن يمثل أزمة حرجة بالنسبة للصين، على نحو خاص، حيث يمكن أن تتزايد الاضطرابات الاجتماعية من حيث العدد والقوة والمدى، وفي غياب سيادة القانون وغيرها من المؤسسات الاجتماعية الحيوية، فإن ضمان الدولة لمعدل نمو ثابت ومستقر يتراوح بين 8 في المائة إلى 10 في المائة يمثل عقدا اجتماعيا، إذا تم خرقه، سوف تواجه الصين تبعات سياسية هائلة.
ومن المتوقع أن يكون إعادة التوازن في الصين عملية سياسية بالإضافة إلى كونه عملية اقتصادية، وهناك حالة من الغموض بشأن ما إذا كان الحزب الشيوعي الذي اشتهر بكونه براغماتيا سوف يتمكن من مواجهة ذلك التحدي خاصة إذا عزز «أمراء» الصين، أبناء الزعماء الثوريين، من نفوذهم في القيادة الجديدة، وإذا ما سقطت الصين، حيث إن اقتصادها معرض لخطر الجمود لسنوات عدة، وهو التطور الذي يمكن أن يجعل ذلك العام المضطرب، يبدو وكأنه الهدوء الذي يسبق العاصفة.
جورج ماغنس: خبير اقتصادي بالبنك الاستثماري «يو بي إس»