المقدمة
شهدت إسرائيل منذ أواسط يوليو 2011 حركة احتجاج اجتماعية غير مسبوقة، لا من حيث حجمها أو استمراريتها، ولا من حيث نوعية القوى المشاركة فيها. وابتدأت حركة الاحتجاج بنصب الخيام في أحد الميادين الرئيسة في تل أبيب احتجاجا على غلاء أسعار الشقق، سواء للشراء أو الاستئجار؛ وما لبثت أن انتشرت الخيام في ميادين المدن والبلدات الإسرائيلية الأخرى، ليصل عددها إلى 3383 خيمة. وتوسع الاحتجاج من رفض غلاء الشقق إلى مواضيع عدة تعاني منها شرائح الطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة في المجتمع الإسرائيلي. وأحصت حركة الاحتجاج في شهرها الأول تنظيم تظاهرات عدة في المدن الإسرائيلية، شاركت فيها أعداد كبيرة من المتظاهرين، الذين بلغ عددهم في أحد أيام الاحتجاج إلى نحو 300 ألف متظاهر.
وبخلاف حركات الاحتجاج الإسرائيلية السابقة؛ التي قامت بها الشرائح المسحوقة من اليهود الشرقيين على خلفية التمييز الإثني ضدهم، مثل تظاهرات «وادي الصليب» في حيفا في سنة 1959، وتظاهرات الفهود السود في أوائل السبعينيات من القرن الماضي، والتي اتسمت بمحدودية المشاركين فيها وباستخدام العنف سواء من قبل المتظاهرين أو الشرطة؛ فإن شرائح من الطبقة الوسطى الإسرائيلية هي التي بادرت وقامت بحركة الاحتجاج الراهنة، وما انفكت تقودها وتهيمن عليها رغم انخراط شرائح من الفئات الفقيرة فيها. ومن الملاحظ أن مختلف وسائل الإعلام في إسرائيل، من راديو وتليفزيون وصحف ومواقع إنترنت، أيدت حركة الاحتجاج ووضعتها طيلة أسابيعها الأولى على رأس جدول أعمالها، وهو ما ساهم في تعزيزها وتعاظم تأييد الرأي العام لها، حيث بلغت نسبة مؤيديها 87% من الإسرائيليين.
أسباب انطلاق حركة الاحتجاج
يعتبر غلاء المعيشة في إسرائيل بصورة حادة من أبرز الأسباب التي قادت إلى ظهور حركة الاحتجاج، فقد شهدت إسرائيل في السنوات الأخيرة موجات ارتفاع متتالية في تكاليف المعيشة، في مختلف متطلبات الحياة الأساسية والضرورية المتعلقة بالمسكن والمأكل والملبس والمشرب والمواصلات والاتصالات والكهرباء والبنزين والسيارات، والمواد الاستهلاكية الأخرى الضرورية. وقد بلغ غلاء المعيشة حدا لم يعد فيه دخل شرائح واسعة من الطبقة الوسطى يكفي لتغطية مصاريفها إلى غاية نهاية الشهر، مع الحفاظ في الوقت نفسه على مستوى معيشتها كطبقة وسطى.
ونتيجة لغلاء المواد الأساسية بشكل كبير، باتت أسعارها تفوق أسعار نظيرتها في أوروبا وأميركا، فقد زاد مثلا سعر منتجات الألبان المختلفة في إسرائيل عن سعر نظيرتها في أوروبا الغربية والولايات المتحدة بنسبة 50% إلى 80%. وكذلك ارتفعت إيجارات الشقق بشكل حاد في الفترة الأخيرة في إسرائيل. وبلغ سعر استئجار شقة صغيرة من غرفة واحدة في تل أبيب 1000 دولار، في حين يتراوح ثمن استئجار شقة متوسطة الحجم بين ألفين وثلاثة آلاف دولار. وأدى ارتفاع إيجارات الشقق إلى عجز جيل الشباب من شرائح واسعة من الطبقة الوسطى، ناهيك عن الشرائح الفقيرة، من شراء شقة لهم، فثمن شقة متوسطة في تل أبيب ارتفع في السنوات الثلاث الماضية بنسبة 64%. وقد أصبح ثمن الشقة المتوسطة في تل أبيب يبلغ مجموع رواتب 143 شهر للموظف من الطبقة الوسطى، وذلك قبل احتساب وخصم الضريبة المفروضة على الراتب؛ أي ما يعادل مجموع دخل 12 سنة عمل وما يقارب 16 سنة إذا تم احتساب وانتقاص الضريبة على الراتب.
تعود الأزمة التي تعاني منها الطبقة الوسطى والشرائح الفقيرة في إسرائيل إلى السياسة الاقتصادية - الاجتماعية التي اتبعتها الحكومات الإسرائيلية منذ أكثر من عقدين، والتي تمثلت في التخلي عن «دولة الرفاه» وانتهاج «الاقتصاد الحر» والخصخصة وتقليص الإنفاق على الخدمات العامة كالتعليم والصحة والسكن. وفي بداية الثمانينيات، كانت نسبة الإنفاق على الخدمات العامة في إسرائيل تبلغ 70 % من ميزانية الحكومة، غير أن هذه النسبة انخفضت في سنة 2011 إلى 43 %، وهي نسبة تشبه معدل نظيرتها في دول «منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي» (OECD). ولكن نسبة الإنفاق على الأمن في إسرائيل تزيد بكثير على معدل دول «منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي»، لذلك فإن نسبة الإنفاق على الخدمات العامة في إسرائيل تبلغ أقل من نظيرتها في دول «منظمة التنمية والتعاون الاقتصادي» بنسبة 5%، ما يضع إسرائيل في أسفل سلم هذه الدول في الإنفاق على الخدمات العامة.
يتفق المحللون والمختصون الإسرائيليون على أن الطبقة الوسطى في إسرائيل والتي يشكل اليهود الإشكناز عمودها الفقري، هي التي تحمل عبء معظم الاقتصاد الإسرائيلي. ومنذ اندلاع حركة الاحتجاج الحالية في إسرائيل، كثرت الكتابات حول دور هذه الطبقة في الاقتصاد والمجتمع والدولة. وعبّرت صحيفة هآرتس عن رأي سائد في المجتمع الإسرائيلي، وخاصة في وسط ويسار الخريطة الحزبية في إسرائيل، عندما شبهت -في افتتاحيتها- الطبقة الوسطى في إسرائيل بالحمار الذي يحمل فوق ظهره معظم أعباء الاقتصاد الإسرائيلي، علاوة على حمل عبء قطاعات غير منتجة وتستهلك خدمات الدولة التي تمولها الطبقة الوسطى، مثل المتدينين «الحريديم» وقطاع المستوطنين، وأعباء الأمن.
وتناول بالتحليل كثير من المحللين والمختصين، بمن في ذلك الذين جاؤوا من صلب المؤسسة الإسرائيلية، المشاكل التي يعاني منها الاقتصاد الإسرائيلي، والتي زادت الأعباء على الطبقة الوسطى وفاقمت وضعها إلى تلك الدرجة التي لم يعد بمقدورها تحملها. وعدّد هؤلاء العوامل الفاعلة في الاقتصاد الإسرائيلي التي زادت من حدة أزمة الطبقة الوسطى، وأهمها:
1 - تقليص الإنفاق والسياسة الضريبية: اتبع رئيس الحكومة الإسرائيلية بنيامين نتانياهو، سياسة تخفيض نسبة الإنفاق على الخدمات العامة بصورة حادة، لاعتقاده أن خفض الحكومة نسبة الإنفاق على الخدمات العامة سيمكنها من تقليص الضرائب، وهو ما يؤدي إلى زيادة النمو. علاوة على ذلك، ألحقت سياسة نتانياهو الأذى بشرائح الطبقة الوسطى والفقيرة في المجتمع الإسرائيلي، فقد خفض من ضريبة الدخل والضريبة المفروضة على الشركات، اعتقادا منه أن ذلك يشكل المحرك الأساس للنمو الاقتصادي؛ فاستفاد من ذلك كبار رجال الأعمال وأصحاب الشركات. وفي الوقت نفسه، زاد نتانياهو الضرائب غير المباشرة، التي يدفعها في نهاية المطاف عامة الناس، وخاصة شرائح الطبقة الوسطى، مثل الضريبة على القيمة المضافة وضريبة الشراء والجمارك، وأنواع كثيرة أخرى من الضرائب غير المباشرة، والتي تزيد بكثير على نظيرتها في الدول المتطورة، ما قاد إلى زيادة الأعباء على شرائح الطبقة الوسطى.
2 - المشاركة في سوق العمل: لا يشارك جزء مهم من المواطنين في سوق العمل، وخاصة في صفوف اليهود المتدينين الحريديم والعرب. ويعود انخفاض نسبة مشاركة اليهود المتدينين الحريديم في سوق العمل إلى أسباب دينية - ثقافية، وعزز ذلك قوة الابتزاز التي تتمتع بها أحزابهم السياسية التي تحصل لهم على مخصصات وامتيازات من الدولة وعلى حساب ميزانيتها. أما انخفاض نسبة العرب المواطنين في إسرائيل في سوق العمل، فيعود إلى عدم تفور فرص عمل في مناطقهم المهمّشة نتيجة لسياسة الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة التي تمارس التمييز ضدهم ولا تستثمر ولا تشجع الاستثمار في مناطقهم، علاوة على منعهم من العمل في الكثير من الشركات الحكومية والخاصة وتلك التي تعمل في مجالات الصناعات المتطورة و«الـهاي تك» والتي عادة ما تكون مرتبطة بصورة مباشرة وغير مباشرة بالأمن.
3 - عبء الأمن: لا تزال ميزانية الأمن مرتفعة للغاية في إسرائيل، وتعد نسبتها إلى الناتج المحلي الإجمالي واحدة من أعلى النسب في العالم. ويأتي الإنفاق على الأمن على حساب الميزانيات التي من المفروض أن توجه إلى الخدمات العامة كالتعليم والصحة والبنى التحتية، علاوة على دور هذه الميزانية في رفع الضرائب.
4 - وجود احتكارات وكارتيلات اقتصادية في إسرائيل، سواء الخاصة التابعة إلى «تايكونات»(tycoons) العشرين عائلة الغنية في إسرائيل، أو إلى الكارتيلات الحكومية، التي تحد من المنافسة وتفرض أسعارا باهظة على المستهلك، قياسا حتى بدول مثل فرنسا.
5 - الدعم الحكومي السخي المقدم للمستوطنين في جميع المجالات، وصب الأموال الحكومية الكثيرة على البنى التحتية للمستوطنات وعلى الخدمات التي تقدم فيها.
6 - الفروقات ما بين المركز والأطراف في إسرائيل، وهو ما يعزز الفجوة الاجتماعية.
الحالة التنظيمية لحركة الاحتجاج
لم يتجاوز عدد أفراد مجموعة الشبان والشابات، الذين كانوا في بداية العشرينيات من أعمارهم، وبادروا في 12 يوليو إلى نصب الخيام في شارع روتشيلد، 15 شخصا لم يسبق لهم أن انتموا لأحزاب سياسية. وخلال فترة وجيزة من نشاط حركة الاحتجاج، ظهرت عدة آلاف من الخيام في 40 مدينة وبلدة إسرائيلية. ولم تكن لحركة الاحتجاج الإسرائيلية عند بدايتها، كأية حركة احتجاج من هذا النوع، أية حالة تنظيمية. ولكن، تشكلت مع مرور الأيام عدة مؤسسات لحركة الاحتجاج، من أجل قيادة هذه الحركة التي تعاظمت بسرعة لم يكن يتوقعها أحد. وتقف على رأس هرم حركة الاحتجاج، البؤرة الصلبة من الناشطين المبادرين، وتدعى «هيئة حركة الاحتجاج». وتجتمع هذه الهيئة كل يوم مرة على الأقل، وهي التي تحدد الاتجاه العام لحركة الاحتجاج. وهناك أيضا «مجلس الخيام القُطْري»، الذي تشكل من مندوبي الخيام؛ إذ يحق لكل خيمة إرسال مندوبين اثنين عنها إلى هذا المجلس؛ ويتم فيه نقل صورة عن الرأي السائد في الخيام المختلفة والقضايا الهامة التي يتم مناقشتها في الخيام، وتتخذ القرارات في هذا المجلس بالإجماع.
إلى جانب هذين الهيكلين، يعقد اجتماع مشترك يضم «الهيئة» وممثلين عن الخيام وممثلين عن منظمات كبرى انخرطت في حركة الاحتجاج مثل اتحاد الطلاب الجامعيين القُطْري وحركة شبيبة «دروز إسرائيل» المنبثقة عن حزب العمل والمنظمات الاجتماعية الكبيرة المختلفة المشاركة في حركة الاحتجاج. وتناقش في هذا الاجتماع القضايا المهمة مثل القرارات حول التظاهرات الكبرى، وتتخذ القرارات بالإجماع. ومن أجل الحفاظ على صورتها كحركة احتجاج مستقلة، وبشكل خاص عن الأحزاب السياسية، حرصت حركة الاحتجاج على رفض التبرعات التي يكون مصدرها من أحزاب وهياكل سياسية أو من رجال الأعمال، واعتمدت على جمع التبرعات من المشاركين في حركة الاحتجاج والجمهور العام.
ولا يمكن لأي مراقب تجاهل تأثر الناشطين بالثورة في ميدان التحرير بالقاهرة، من حيث عملية نشوء هذه الحركة، والشكل الذي اختارته للتنظيم والتجمع، وطبيعة القوى المشاركة، ودور أحزاب المعارضة الداعم وغير القائد. ويصرح بعض الناشطين بشكل واضح بتأثير مشاهد ميدان التحرير فيهم. ولكن الحديث هنا طبعا ليس عن ثورة ولا عما يشبه الثورة على نظام الحكم، بل عن حركة احتجاج اجتماعية تسلّم بالنظام السياسي القائم ولا تعترض عليه سياسيا، ولا تحيد حتى عن إجماعه الأيديولوجي الصهيوني.
رد فعل الحكومة على حركة الاحتجاج
حاول نتانياهو وحكومته في بداية الاحتجاج التشكيك في دوافع وأهداف حركة الاحتجاج والإيحاء بأن قوى حزبية تقف وراءها وبأن لها أجندات سياسية. ولكن بعد اتضاح مدى الشعبية التي تحظى بها حركة الاحتجاج ومدى إقرار معظم مكونات المجتمع الإسرائيلي ونخبه بعدالة مطالبها، غيّر نتانياهو موقفه وموقف حكومته تجاه حركة الاحتجاج، وأخذ شيئا فشيئا يقر بعدالة مطالب حركة الاحتجاج وبتقصير حكومته والحكومات المتعاقبة في معالجة ما تعاني منه شرائح الطبقة الوسطى. وأرسلت الحكومة الإسرائيلية العديد من الوزراء إلى خيام المحتجين للتفاوض معهم من أجل إنهاء حركة الاحتجاج، بيد أن إصرار قادة حركة الاحتجاج على مطالبها والتأييد الشعبي الذي حظيت به، خاصة بعد مشاركة أكثر من 300 ألف متظاهر في أحد أيام الاحتجاج، أرغم الحكومة الإسرائيلية على التحرك بتشكيل لجنة خبراء لدراسة مطالب حركة الاحتجاج وتقديم توصيات للحكومة بشأنها، وأوحت الحكومة أنها ستلتزم بتوصيات اللجن.
و حدة تحليل السياسات في المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات