نعيش الآن في الأردن مرحلة فوضى المفاهيم والمصطلحات. هذا أمر طبيعي في مجتمع يخوض عملية تغيير جذرية في إدارة الدولة وهي عملية مؤلمة وقد تنتج عنها الفوضى خاصة مع غياب التيارات الحزبية ذات البرامج الواضحة.
وعلى سبيل المثال لا توجد فوضى أكثر من كيفية التعامل مع، وتعريف مصطلح «الإصلاح» حيث يمكن أن نجد له 50 تعريفا مختلفا من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار في الفكر السياسي والاجتماعي السائد حاليا في الأردن.
من المفاهيم الاقتصادية-السياسية التي تعاني من الكثير من الخلط مفهوم الليبرالية واقتصاد السوق الاجتماعي:
أصبحت الليبرالية في نظر الرأي العام الأردني شتيمة قد لا تقل عن الكفر والعلمانية وربما الصهيونية أيضا، خاصة عندما حاولت بعض التيارات ربط كافة منظومة الفساد في الأردن بتيار الليبرالية الاقتصادية الذي سيطر على القرار منذ منتصف التسعينيات تقريبا. وللأسف فإن بعض رموز هذا التيار والذين كانوا سعداء بإطلاق وصف الليبراليين عليهم قدموا أسوأ النماذج في تسلط القرار والفساد وغياب المساءلة والمشورة في القرار الاقتصادي؛ ما جعل تهمة الليبرالية جاهزة لكي يتم إطلاقها على كل شخص يحمل فكرا سياسيا او اقتصاديا ليبراليا وطنيا. في المقابل ظهر ببطء مفهوم اقتصاد السوق الاجتماعي محاولا تبرير بعض سياسات الدعم والرعاية الاجتماعية التي تعرضت لنقد متواصل من المؤسسات المالية الدولية وأسهمت كثيرا في تزايد الإنفاق العام.
ولا بد من القول هنا: إن الأردن لم يطور نموذجا في اقتصاد السوق الاجتماعي له ملامح يمكن الحديث عنها، كما لم يتم طرح المفهوم كدعاية سياسية اقتصادية كما في سوريا لتبرير سيطرة رجال الأعمال المقربين من عائلة الحكم في سوريا على كافة القطاعات الاقتصادية الحديثة. لقد بقي مصطلح اقتصاد السوق الاجتماعي في الأردن عبارة عن شعار غير واضح المعالم يستخدم حسب الحاجة السياسية ثم يلقى به على قارعة طريق الإنفاق العام غير المنضبط.
اقتصاد السوق الاجتماعي هو النمط الاقتصادي الذي أوصل ألمانيا إلى قمة اقتصادات أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية وقدم نموذجا استفادت منه دول أوروبا الشمالية وخاصة الدول الإسكندنافية وكذلك بريطانيا في حكومات حزب العمال وإلى حد ما إسبانيا واليونان وايطاليا، وفي معظم الحالات حقق هذا النموذج نجاحا ملحوظا.
حاول اقتصاد السوق الاجتماعي أن يشكل مسارا ثالثا ما بين الاشتراكية التي كانت ناهضة بقوة في أوروبا بعد الحرب العالمية وما بين الرأسمالية الليبرالية التي كانت متجذرة في دول العالم المتقدم بقيادة الولايات المتحدة. وقد ساعد ألمانيا على تحقيق الاستمرارية في هذه السياسة أنها شكلت توافقا ما بين الحزب الديمقراطي المسيحي والحزب الديمقراطي الاجتماعي حيث تبادلا الحكم طوال العقود الماضية فقد تمكن كل من الحزبين من الالتزام بالقيم الأساسية لاقتصاد السوق الاجتماعي ولم ينجرفا وراء سياسات انفتاحية أو حمائية متطرفة وهذا كان سببا رئيسا في استمرار وتطور النموذج الألماني.
يتمتع نظام اقتصاد السوق الاجتماعي بالملكية الفردية والقطاع الخاص والسوق ولكن مع وجود تنظيم حكومي لهذا السوق بهدف توظيفه لخدمة الصالح العام وخاصة في قطاعات التعليم والصحة والتقاعد والتأمين ضد البطالة والتأكيد على منع الاحتكار في السوق وتشجيع المنافسة العادلة. أسهم تطور اقتصاد السوق الاجتماعي في أوروبا في ظهور نظرية سياسية خاصة ناتجة عنه وهي «الديمقراطية الاجتماعية» والتي انتشرت بقوة في ألمانيا وبريطانيا والدول الإسكندنافية.
الديمقراطية الاجتماعية تعتمد على الإصلاح التدريجي للنظام الاقتصادي بإدخال مفاهيم «دولة الرفاه الاجتماعي» والعدالة الاجتماعية ودمجها مع الليبرالية السياسية المعتمدة على الحريات وحقوق الإنسان وتنظيم الحرية الفردية ضمن اطار واضح من المصلحة الجماعية. وهنالك خمس قيم اساسية للديمقراطية الاجتماعية وهي الحريات، المساواة والعدالة الاجتماعية، التضامن الاجتماعي، الديمقراطية وحقوق الإنسان وكذلك السلام.
لا يوجد في الأردن نظام اقتصاد سوق اجتماعي ولا حتى فكرة منظمة حولها، من الواضح أننا بحاجة إلى جهد منظم في الفكر السياسي والاقتصادي يعتمد على البرامج والحلول والنظريات المتناسقة بدلا من فوضى المصطلحات والشعارات القائمة حاليا.