تكاليف الدعم والكهرباء وأسعار الخبز الحقيقية مازالت قيد التشكيك في سورية

تاريخ النشر: 21 نوفمبر 2011 - 03:01 GMT
ماذا يحدث حين يقوم مسؤولو الاقتصاد في أي بلد بقذف الإعلام بأرقام متناقضة تحور الواقع؟
ماذا يحدث حين يقوم مسؤولو الاقتصاد في أي بلد بقذف الإعلام بأرقام متناقضة تحور الواقع؟

إن من مميزات تغطية أخبار الأوضاع الاقتصادية لأي بلد أنه بإمكان المتابع قراءة الأرقام والإحصائيات، ومن ثم يصل إلى استنتاجاته وفقاً لقناعاته الاقتصادية والفكرية، ويبرر استنتاجاته بدراسة هذه الأرقام وتحليلها. ولكن ماذا يحدث حين يقوم مسؤولو الاقتصاد في أي بلد بقذف الإعلام بأرقام متناقضة تحور الواقع؟ في هذه الحالة يصعب على أي محلل في تلك الظروف أن يصل إلى أي حقيقة إلا حقيقة وحيدة، وهي أن هذا التلاعب في الأرقام يخفي وراءه أشياء جسيمة أقلها عدم حرفية المسؤول الذي يدلي بتلك التصريحات وأوسطها أنه يخفي فساداً وإهمالاً في إدارته. ولكن حين تصبح هذه الظاهرة معمّمة يدل على أن ذلك يقع ضمن جهود منسقة لحرف الحقائق وتضليل الإعلام بحيث لا يمكن لأحد الوصول إلى الحقيقة.

تناقضات

تماماً كما يدرك أي مراقب مالي من وزارة المال أن التناقضات في دفاتر الحسابات تشير إلى أن وراء الأكمة ما وراءها كما يقال، يتراوح ما بين تهرّب ضريبي إلى غسيل الأموال، مما يجعله يدقق بشكل أكبر علّه يجد بين الأرقام ما يشير إلى ذلك. وهنا لا نوجه انتقاداتنا فقط إلى المسؤولين بل يتحمل المسؤولية أيضاً الزملاء الصحفيين.

ففي بداية الأحداث الأليمة التي تمرّ فيها سورية الحبيبة انبرى الكثير من الصحفيين بتسليط الأضواء على بعض الممارسات المالية الخاطئة، ولكن سرعان ما فترت همة الصحفيين وكأن ذلك كانت موجة موضة يجب ركوبها. ثم خفّ صوت الصحافة وبدأت تنهال علينا أرقام لا تمت للواقع بصلة وتتناقلها الصحافة دون تمحيص.

وقبل أن نتابع نجد أنه من الضرورة التنبيه إلى شيء جوهري أن المطالبة بالشفافية والمحاسبة ليست بدعة استوردناها من أمم سبقتنا حديثاً (وإن كنّا نؤمن أن الحكمة ضالة المؤمن أينما وجدها أخذها)، وإنما هي عميقة في جذور تراثنا فلا ننسى أن عمر بن الخطاب لم يستطع أن يكمل خطابه قبل أن يبرر لسائله من الرعية كيف يرتدي ثوبا طويلاً وغيره لم يحصل على نفس الكمية فبرر ذلك بأنه أخذ حصة ابنه. والحقيقة الثانية لا يجب على أي مسؤول نظيف اليد أن يستاء من المطالبة بالشفافية، وإن تم تناول أداؤه على صفحات الإعلام فإن كان محقاً فإجابته تثري المواطن وتنشئ ثقافة جديدة نحن بأمس الحاجة إليها.

أرقام حارقة وهنا سنذكر بعض الأرقام وكيف تناولها المسؤولون وتبعات ذلك:

فمثلاً صرّح أحد المسؤولين أن حجم الدعم على المحروقات وصل في النصف الأول من العام إلى ما يقرب 2.5 مليار دولار وتم نقل تصريحه دون أي تمحيص من قبل الصحافة، ولكن هل فكّر أحد بالرجوع إلى الإحصائيات الرسمية ومقارنة هذه الأرقام مع الواقع؟ لنترك للأرقام سحرها ولنبينها للقارئ ونترك له حرية الاستنتاج: إن سورية حسب المصادر العالمية تنتج يومياً 400 ألف برميل نفط تصدّر منها 155 ألف برميل وتستهلك 252 ألف برميل حسب إحصائيات عام 2009. وهذا يعني أن سورية تستهلك في السنة 93.07 مليون برميل سنوياً مما تنتجه، بينما تصدّر 56.6 مليون برميل سنوياً.

وفقاً للإحصائيات الرسمية حسب موقع مصرف سورية المركزي، فإن سورية صدرت 8.6 ملايين طن نفط خام ومكرّر ولأن طن النفط يعادل نحو 6 براميل، فيكون حجم الكمية المصدّرة 52.15 مليون برميل (وهو لا يفرق كثيراً عن التقديرات العالمية) بسعر إجمالي 169.6 مليار ليرة سورية، وإذا حسبناها على سعر الدولار بـ 48 يعني أن السعر الوسطي للبرميل كان 67.7 دولاراً. ولتحري الدقة فإن سورية استوردت وفقاً للمصرف المركزي مشتقات وخام، وصلت إلى 4.02 ملايين طن تعادل 24.12 مليون برميل بسعر إجمالي 91.45 مليار ليرة سورية بسعر وسطي 79 دولاراً للبرميل.

تساؤل

والآن كيف توصل المسؤول إلى احتساب أن الدعم يساوي 5 مليارات دولار سنوياً للنفط، علماً أنه لو تم بيع ما يستهلكه السوريون بالأسعار التي تم التصدير بها لوصل السعر الكامل 6.5 مليارات دولار.

ماذا يعني مثل هذا التصريح؟ هذا يعني أن عليه ألا ينسى نفسه ويتعامل مع المواطن تماماً مثل بعض الملكيات التي تعتبر كل شيء يحصل عليه المواطن مكرمة ملكية عليه أن يشكر رب نعمته عليها. إن تصرّف المسؤول هذا أنساه أنه وغيره موظفون عند المواطنين، وأن لا منّة لأحد إن جادت أرض بلد ما على مواطنيها بخيراتها. فهو يريد أن يرضي من هو أعلى منه بالمن على المواطنين مذكراً إياهم أنهم لو لم يستهلكوا النفط التي جادت بها أرض الوطن، لكان يمكن بيعها للخارج بمبلغ كذا لذلك اعتبرها بمجملها دعماً.

ولا يستبعد أن يأتي يوم يتحفنا فيه مسؤول في مياه الفيجة ليخبرنا أنه يتم تعليب بعض مياه الفيجة (بالرغم من عطش بعض ريف دمشق) ويتم بيعها بسعر 15 ليرة سورية للزجاجة، وبالتالي فإن الدعم الذي يتلقاه قطاع المياه يساوي كمية الأموال التي يمكن أن تجنيها المؤسسة لو امتنع الناس عن الشرب، وتم تعليب كافة المياه وبيعها، بدلاً من أن يتم حساب متر الماء المكعب بليرة واحدة فقط.

كلفة الكهرباء

والأخطر من ذلك أيضاً أن يتم قذف الإعلام بأرقام متتالية عن مبالغ الدعم، فالكهرباء بدلاً أن يعتذر فيها المسؤول بعد أن كشفنا في مجلة الاقتصادي أنّ كلفة إنتاجها في سورية تفوق 3 مرات كلفة إنتاجها من الوقود الحراري في أميركا، فإنه يمن على المواطنين بأن دعم الكهرباء يساوي أكثر من ملياري دولار، ويبرّر الكلفة العالية بأنه يتم استخدام الفيول والمازوت اللذين يكلفان أكثر من الغاز والفحم الحجري المستخدم في أميركا، كأن هناك نصاً في الدستور السوري يوجب عليه استخدام تلك المواد الأكثر تلويثاَ والأكثر كلفة. ولو صدق قول المسؤولين بحجم كميات الدعم لوجدنا أن غالب ميزانية الدولة التي لم تتجاوز الـ 17 مليار دولار ذهبت للدعم، فأين الإنفاق على التشغيل والموظفين والدفاع والاستثمار؟ إن تكرر مثل هذه التصريحات يدل أن هناك تعمداً لرشق الإعلام بأرقام كثيرة يضيع فيها الكثيرون، فلا يمكن تبين الحقيقة وأين مواقع الخلل. ويصبح دور المحلّلين الاقتصاديين صعباً جداً.

الرقم السحري

أما الرقم الثاني فهو الرقم السحري 39 ليرة سورية، وهذا ما تناقلته وسائل الإعلام عن أحد مسؤولي قطاع المطاحن والتي زعم فيها أن كلفة الكيلو واحد من الخبز يكلف الدولة 39 ليرة. وبذلك تخسر الحكومة نحو 30 ليرة على الكيلو.

وعتبنا على من نقل الخبر من الصحفيين أنهم لم يدققوا في الأمر، ولا حجة لهم بأن يستندوا على مقولة ناقل الكفر ليس بكافر، لأن هذه قاعدة فكرية قديمة تؤسس لحرية التعبير، ولكن هذا لا ينطبق على ناقل الغباء فناقل الغباء ساذج. كيف فات على من نقل هذا الخبر أن الأفران الصغيرة (حجم الإنتاج الصغير مكلف) التي تنتج الخبز السياحي المحسن، والمضاف إليه مواد تبيع الكيلو بالجملة (37 ليرة) بأقل من المبلغ الذي زعم فيه هذا المسؤول أنه يكلّف الدولة لإنتاج كيلو الخبز، رغم أن الأفران الخاصة رابحة، فقبل أن يزعم أن هذا هو دعم فليبحث عن أسباب الهدر عند بابه. صحيح أنه ربما أراد أن يبيّض وجه الحكومة، ولكن إذا أردنا أن نعرف ما لمثل هذا التصريح من مخاطر فلننظر إلى الفوضى التي عمّت في سوق أهم سلعة تمسّ حياة المواطن.

فإذا كان بعض المسؤولين يحاول التشاطر على المواطن، فقد فتح باباً أمام ضعاف النفوس فنجد أن رغيف الخبز (المشروح) يباع في الميدان بـ 2.5 ليرة ورغيفاً يشابهه ولكن أصغر حجماً يباع قرب محافظة دمشق بـ 5 ليرات، وآخر يماثله يباع في المزة بـ 10 ليرات. والأخطر من ذلك انتقلت العدوى إلى بعض الجشعين من المخابز السياحية ولما لا طالما أن المسؤول فتح البازار، لذلك نجد أن هناك بدعة جديدة أوصلت بعض المخابز أن تبيع الخبز السياحي (الصمون السادة) بـ 65 ليرة للكيلو، ولا نستغرب أن نسمع من أوكل إليه مسؤولية مراقبة الأسواق أن يقول كما قال بخصوص الحلويات إن السبب هو المواطن الذي يدفع هذا المبلغ! جدل النمو أما الرقم الثالث الذي نريد أن نتناوله هو توقعات النمو في الاقتصاد السوري.

على ما يبدو يتعامل البعض مع هذا الرقم بحساسية، فكلما كانت التوقعات أعلى كلما دلّ ذلك على مدى وطنية هذا المحلّل الاقتصادي! لو كان الأمر بالتمني، فلا يوجد من لا يتمنى أن يعم الرخاء أرجاء البلد، ولكن التحليل الاقتصادي هو عملية حسابية تختلف باختلاف الأرقام المدخلة في الحساب. فكيف يكون لمسؤول في المالية مصداقية، حين يعلن أن إيرادات الخزينة، لم تتأثر على الإطلاق في الظروف السائدة، علماً أنه في اليوم نفسه الذي نشر مثل هذا التصريح صدر تصريح رسمي آخر مفاده أن الصادرات هبطت بنسبة تقارب 30% في الشهرين الماضيين، وسبق ذلك تصريحات بأن المستوردات قد هبطت بنسبة أكبر . ونحن نعرف ما لقطاع الاستيراد والتصدير من دور في تحقيق إيرادات للخزينة.

وعلى حد علمنا فإن الكثير من الرسوم قد تم تخفيضها، فكيف لم تنقص الإيرادات مع هبوط المستوردات والتصدير؟ والسؤال المتعلق بنسبة النمو: هل يمكننا أن نصدق ما قالته وزيرة السياحة من أن السياحة انخفضت إلى نحو 60% (وهو تصريح متفائل بالظروف الحالية) ونصدق أيضاً الإحصائيات الرسمية بأن قطاع السياحة شكّل نحو 18% من الناتج المحلي (أي نحو 9 مليارات دولار)، ثم نستمر على قولنا إن النمو سينخفض فقط درجتين في المئة؟ وأخيراً نترك للقارئ الحرية في الحكم على ما تقدم، ولكننا نذكّر الجميع أن الأرقام حيادية. وكما أن ناقل الكفر ليس بكافر، فإن من يقرأ حقيقة الأرقام ويبني على مقتضاه توقعاته لا يتحمل مسؤولية الحقيقة التي تشير إليها الأرقام.

 

الاشتراك

اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن