عندما يكتب المؤرخون أعمالهم ستكون كلمة “الديون” بالتأكيد المسيطرة على رواية الاقتصاد العالمي لعام 2011. بالعودة بالذهن إلى عام 2009 ظهرت حكاية تحذيرية نتجت عن الانكماش المالي وخلصت إلى أن نموذج النمو الذي يعتمد على تمويل العجز، وهو أسلوب تم التعود على إتباعه ، لن يستمر إلى الأبد. وبعد عامين، ما تزال الديون التي خيمت بظلالها على النظام المالي العالمي قائمة، ولكنها انتقلت من القطاع الخاص إلى الحكومة. وخلال الأشهر الـ12 الماضية، أعادت الأزمة تشكيل المشهد الاقتصادي العالمي، تاركة أوروبا تكافح ديونها المتزايدة، والولايات المتحدة تركز على حفز النمو، والاقتصادات الناشئة تسعى إلى تجنب المخاطر.
الآثار البغيضة للديون المتزايدة
كانت اللمحة الأولي لمنزل اليونانية خريسا سالافراكو تعبر عن مجموعة من المقتنيات المزخرفة الأجنبية وأثاث من طراز عتيق، ما يشير إلى أن أسرتها من العائلات ميسورة الحال في اليونان. وعلى الرغم من ذلك، لم تكن صاحبة المنزل في حالة مزاجية جيدة. فقالت سالافراكو لوكالة أنباء ((شينخوا)) إن أزمة الديون جعلتها تشعر بألم لم تشهده من قبل. فانخفض دخل عائلتها بشكل شديد اثر ارتفاع الضرائب، ما أجبرهم على تغيير أسلوب معيشتهم، على ما قالت. تعد اليونان صورة مصغرة لأزمة الديون المستمرة منذ سنتين، والتي بدأت في أيسلندا وايرلندا ثم انتقلت إلى اليونان قبل انتشارها إلى كل من البرتغال وأسبانيا وايطاليا وحتى فرنسا. وفى الأسابيع القليلة الماضية، هددت وكالات التصنيف الائتماني بخفض علامات معظم الدول الأوروبية ، كما أعرب بعض المعلقين الماليين الغربيين عن قلقهم إزاء احتمال انهيار منطقة اليورو. وفى هذه الحلقة المفرغة من الخوف، غذى كل من ضعف التمويل الحكومي والقلق إزاء الأسس الاقتصادية وسيولة الأسواق بعضهم البعض، ما جعل أزمة الديون تتحول إلى خطر عالمي كبير محتمل في عام 2012، حسبما يتوقع المحللون.
ولن يكون الاقتصاد الأمريكي في حال أفضل. فقد أوضحت الإحصاءات أن الديون على المستوى الفدرالي سجلت رقما قياسيا إذ بلغت 15 تريليون دولار أمريكي بما يعادل عائدات الولايات المتحدة من تجارة البضائع والخدمات في سنة واحدة. ووصل عجز الميزانية الأمريكية في العام المالي الذي انتهى في 30 سبتمبر الماضي إلى 1.3 تريليون دولار، متجاوزا مستوى تريليون دولار المسجل في الأعوام الثلاثة المتواصلة الماضية. وربما يكون من الصعب أن ينخفض العجز في المستقبل القريب. وفى أغسطس الماضي، خفضت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني للولايات المتحدة لأول مرة في تاريخها من العلامة الممتازة. واحتوى هذا الخفض، على الرغم من أنه كان مثيرا للجدل، على بعض المخاوف المشروعة. وعقب مفاوضات صارمة ومحاولات لخفض العجز في الميزانية، لم تظهر المواجهة السياسية بين صناع القرار بسبب سقف الديون الحكومية أية إشارة على التراجع. وبينما تكافح أوروبا والولايات المتحدة للسيطرة على نضوب الميزانيات الحكومية، يبدو أن الاقتصادات الناشئة أقل قلقا. فوفقا لصندوق النقد الدولي فان نسبة الديون إلى إجمالي الناتج المحلي في الأسواق الناشئة للفترة بين عامي 2007 و2010 بلغت 36 في المائة، في انخفاض مقارنة مع نسبة الدول المتقدمة التي قفزت من 73 في المائة إلى 96 في المائة خلال نفس الفترة.
“تغير مناخ” في الاقتصاد العالمي
صرح البنك الاتحادي السويسري (يو بي اس) في تقرير “الأفق العالمي لعام 2012” قائلا “نثق بأننا نشهد حاليا تغير مناخ على الأمد الطويل في الدائرة الاقتصادية”. وأشار البنك السويسري العملاق إلى أن دولا آسيوية، من بينها الصين واندونيسيا, تعد عموما أكثر أمنا من الناحية الاقتصادية مقارنة مع الولايات المتحدة وأوروبا. ولكن من المرجح أن تسلم قلة قليلة فقط من الدول من أزمة الديون المتفشية القائمة في منطقة اليورو حتي بالنسبة للاقتصادات الآسيوية الناشئة سريعة النمو.
وتظهر توقعات أخيرة صدرت عن وكالة أمريكية في ديسمبر الجاري أن بعض الاقتصادات المتقدمة تواجه خطرا أكبر فيما يتعلق بالركود الناتج عن الديون, ما يهدد بسحب باقي دول العالم إلى التراجع. وبالنسبة للصين، بصفتها قاطرة النمو الاقتصادي العالمي, فقد أصبحت قضايا مثل كيفية تفادي المخاطر والمحافظة على القوة الدافعة للنمو الاقتصادي وتحسين هيكلها الاقتصادي لحفز النمو من القضايا العالمية.
وفي هذا السياق قال سون تاو، الاقتصادي في صندوق النقد الدولي، إن الأسواق الناشئة - ومن بينها الصين - بحاجة إلى الحذر من نوعين من المخاطر، الأول يتمثل في ارتدادات أزمة الديون المتدهورة على الأمد القصير مثل انخفاض حجم الصادرات وهروب رؤوس الأموال، والثاني تكرار دوامة الديون كما كان الحال في الولايات المتحدة وأوروبا.
ويحذر محللون من أن زيادة عدد السكان المسنين وندرة الموارد من الأمور التي قد تؤدي إلى رفع الأسعار, ما يثير تحديات للاقتصادات الناشئة فيما يتعلق بالسيطرة على التضخم المالي بدون إحداث ضرر بالنمو الاقتصادي. وفي ظل هذه الظروف تعد إعادة هيكلة الاقتصاد بشكل عميق لإطلاق العنان لموارد النمو وتحديث مزيج الإنتاج السبيل الوحيد لمواجهة التحديات، حسبما أشار محللون. وفي هذا الصدد، قال بيير كارلو بادوان, كبير الاقتصاديين في منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية, في رأي متشابه, قال إن الاقتصادات الناشئة من الممكن أن تستفيد من البيئة الخارجية المتدهورة لدفع الإصلاح الهيكلي بما يجعلها أكثر مرونة. ظهور نموذج جديد للنمو: على الرغم من أن أزمة الديون المتفاقمة التي يتعرض لها الغرب زادت من قوة الرياح المعاكسة للانتعاش الاقتصادي الهش أصلا، ظهرت بعض العلامات المشجعة التي تتمثل في أن كثيرا من البلدان ودعت طرقها الفاشلة وبدأت تتبع أساليب نمو اقتصادي جديدة. فوافقت أوروبا، على سبيل المثال، على مسودة اتفاق جديد يهدف إلى تشديد القواعد الخاصة بالميزانية للسيطرة على أزمة الديون الخطيرة، ما يعد خطوة مهمة تجاه اتحاد أوروبي أكثر تكاملا.
أما بالنسبة للولايات المتحدة، فتوقعت دراسة مسحية لبنك ((غولدمان ساكس)) قامت على أساس المراجعة والتكهن للنمو الاقتصادي للفترة ما بين عامي 2008 و2012، توقعت أن يساهم قطاع التصدير في النمو بحصة أكبر مقارنة مع حصته السابقة، بينما تنكمش نفقات الأسر والحكومة. وأشار هذا إلى تحول في سياسة الاقتصاد الكلي الأمريكية من الاستهلاك الائتماني إلى أجندة محددة للنمو. ومن منظور عالمي، تجري عملية إعادة هيكلة متعددة الاتجاهات تندرج من مجالات نقاط النمو وتدفق رأس المال والتوزيع الصناعي إلى النظام النقدي العالمي. وتلعب البلدان الصاعدة والنامية دورا أكبر في نمو الاقتصاد العالمي خلال عملية إعادة التوازن للاقتصاد . وستشهد التجارة العالمية أيضا زيادة مستمرة في مجال الاستثمارات الثنائية بين الدول المتقدمة والنامية. وربما يتدفق رأس المال إلى الأسواق الناشئة التي تتمتع بقوة دافعة أشد للنمو وعائدات أكثر. وستصبح بعض الدول النامية، مثل الصين والبرازيل، مزودا جديدا لرأس المال.
وفي الوقت نفسه، تتواصل عملية إعادة هيكلة النظام النقدي العالمي. ولذا، تفوز الاقتصادات الناشئة بصوت أكبر في الحوكمة المالية العالمية. أثبت التاريخ أنه من رحم الأزمة تتولد دائما مبادرة للتغيير. وفي ظل اعادة التوازن الجارية في الاقتصاد العالمي، علينا أن نثق في أن أزمة الديون لن تؤدي إلى ضرر مستمر لاقتصاد العالم بل ربما توفر نموذجا جديدا أكثر استدامة للنمو يمكنه المساعدة على نهوض وازدهار الاقتصاد العالمي.