القذافي والشعراء

تاريخ النشر: 15 مايو 2020 - 03:28 GMT
القذافي والبرغثي
القذافي والبرغثي


روى السفير الليبي في الأردن محمد البرغثي شطراً من ذكرياته حين كان رئيساً لتحرير مجلة الثقافة العربية.
 وسرد البرغثي على صفحته في موقع فيسبوك  قصة حدثت معه مع الزعيم الراحل معمر القذافي محورها الشعراء.
تاليا تفاصيلها:
 أثناء لقاء مع العقيد معمر القذافي ، فوجئت به يسألني : " هل تعرف الشاعر محمد الشلطامي ؟ هو معك فى المجلة ؟ " أجبته : " نعم هو متعاون مع المجلة " أضاف : " هل تعرفه جيداً ، هذا ماركسي " قلتُ له : " أعتقد أنني أعرفه جيداً فهو صديقي ، الشلطامي الذى أعرفه ، شخصية وطنية ، شاعر مبدع ، عصامي ، صاحب رأي ، تعرفتُ عليه منذ زمن ، ربطتنا علاقةٌ طيبة ، قرأت أشعاره التى نُشرت ، أطلعني على أشعاره التى لم تُنشر ، حدثني بالتفصيل عن تجربته فى السجن خلال العهدين "

- لا أتصور أن الشلطامي ماركسي الأنتماء ، الماركسية هى تهمة لاحقت عدداً من المثقفين ، ربما لها علاقة بالقراءات السياسية المبكرة للشباب ، أبهرتهم الشعارات وأستهوتهم المصطلحات ، الامر فى تقديري لا يتجاوز حدود استخدام بعض التعبيرات ، نتيجة لذلك : جاءت التصنيفات ، وفُتحت لهم الملفات ، أقترحتُ على العقيد القذافي أن يلتقي بالشلطامي ، وقلتُ له : " من الأفضل أن تسمع من الرجل ، لا أن تسمع عن الرجل "

- فى مساء اليوم الثاني تمت دعوة الشلطامي للقاء العقيد ، كنتُ أحد الحاضرين ، كما حضر اللقاء الشاعر محمد الفيتوري ، الاستاذ ابراهيم العريبي أمين الإعلام فى بنغازي ، العقيد حسن إشكال ، العقيد احمد قذاف الدم ، وهما أبناء عمومة للعقيد القذافي .

- جلس الجميع فى شرفة الاستراحة ، انتظاراً لمجئ العقيد ، الذى قيل لنا سيتأخر قليلاً ، حيث يعقد لقاءاً مع ضباط القوات البحرية ، وصل العقيد ، وقف الجميع للتحية والسلام ، لفت نظري أنه فى اللحظة التى صافح فيها الشلطامي ، مد يده وأدار وجهه ، وما أن جلسنا ، حتى تمت دعوتنا للعشاء ، كانت مائدة كريمة ومتنوعة ، تحلق الجميع حولها بإستثناء العقيد ، الذى ألتفت الى أحد معاونيه وأسمه عويدات ، خاطبه قائلاً : " أنتم تعرفون أنني لا أكل هذا النوع من الطعام ، أعملي مكرونة " ، فضل القذافي أن يترك مسافة وجلس بعيداً ، جلس على كرسيه فى إنتظار عويدات والمكرونة ، وقد جاءت ولم تتأخر كثيراً .

- كانت أجواء اللقاء ملبدة بالغيوم ، أستشعر العقيد احمد قذاف الدم ذلك ، حاول أن يخفف من حدة الموقف ، حكى طرفة ، ضحك الجميع ، لم يضحك القذافي ، قلتُ في داخلي " الله يمشى هذه الليلة على خير " .

- عقب العشاء جلس الجميع فى حلقة دائرية ، تصدرها العقيد القذافي ، طلب القذافي من السيد ابراهيم ابجاد مسؤول الإعلام بالقيادة ، إحضار آلة تصوير مرئية لتسجيل اللقاء ، كيف سيكون مسار الحوار فى جلسة خاصة ، يحرص القذافي على توثيقها ؟

- أفتتح القذافي اللقاء بسؤال وجهه للشلطامي : " سمعّني شعرك الذى دخلت بسببه للسجن ؟ " رد الشلطامي قائلاً : " تقصد السجن فى العهد الملكي أم فى عهدك ؟ " علق القذافي قائلاً : " هل سُجنت فى العهد الملكي ؟ " أجاب الشلطامي : " نعم " قال القذافي : " أسمعني " ، عندئذ قرأ الشلطامي الأبيات التالية من قصيدة بعنوان ( رؤيا ) :

أعرفت ليلة أمس ماذا أن تكون بلا رفيق
وبلا نصيرٍ فى طريق العسف تقهرك الهزيمة
كالآخرين
تجري ويطلبك القضاة بلا جريمة
فوددت لو أن السماء
تندك ، لو أن الزمان بلا مساء
كي لا أنام
وأراك تخلع فى جناح الليل وجهاً مستعار
وأراك تحت ضراوة الرؤية دخاناً دون نار

- أشار الشلطامي الى أن هذه القصيدة نُشرت فى يوليو 1968 ، سأل القذافي : أين نُشرت ؟ أجاب الشلطامي : " فى جريدة الحقيقة " علق القذافي : " وهل كانوا ينشرون قصائدكم ؟ " أجاب الشلطامي : " نعم كانوا ينشرون ويسجنون ! "

- قرأ الشلطامي نصوصاً من قصائده ، كان أبرزها قصيد ( الاتهام ) والتى جاء فيها :

الباب يُغلق والصباح
آت أحس به كأن يداً تحطم فى الظلام
سور المحال ، كأن ضحك الدهر ينذر بالبكاء
فأرى صليبك صولجانك ، وانتهاءك مبتداك
وأراك تحصد فى حقول الموت مازرعت يداك
الآن مثلي ، أنت ذا فى الرعب تنتظر الصليب
تصحو على وهم بأن يداً تدس لك الفناء
وبأن حصنك بالرفاق يموج يزحم . . والخلاصة
بالفجر تنسف رأسك الهمجي رصاصة
وتظل تبصر فى المرايا وجه قاتلك الكئيب
الآن مثلي أنت ذا فى الرعب تنتظر الصليب
وتعيد نفسك كلما عتم المغيب صدى أسطوانة
قد خنت آه لعل أبشع ما يكون هو الخيانة

- تابع القذافي القصيدة وهو يهز ركبتيه ، ويجول بعينيه فى السماء متأملاً ، بعد هذه الابيات أعتقد أن القذافي لم تعد لديه الرغبة فى سماع شعر الشلطامي ، أدرك ذلك العقيد احمد قذاف الدم ، فتدخل فى الحديث قائلاً : " نحن معنا شاعر آخر نريد أن نسمعه وهو الشاعر حسن أشكال ، نتمنى أن نسمع قصيدته التى كتبها عندما سُجن " عقب القذافي ضاحكاً : " حسن مسجون ويكتب فى الشعر " ، قرأ العقيد حسن أشكال قصيدة شعبية ، فيها الكثير من الإيماءات التى لم يرتح لها القذافي ، وإن كان ختمها ببيت شعر لا زال عالقاً فى ذهني ، حيث يُخاطب أبن عمه قائلاً : " ياقائد دوم لو ايسير الزوم ، أنجيك ظالم ماني مظلوم " يبدو ليّ أن قصائد الشعر التى سمعها القذافي فى تلك الليلة ، لم تبعث فى نفسه أرتياحاً .

- أمر القذافي بإيقاف تشغيل آلة التصوير ، وتوجه الى الشاعر محمد الفيتوري سائلاً : " أتابع إنتاج الشعراء ، وقد لاحظت أن الإنتاج الشعري فترة العهد الملكي كان أغزر ، ياتُرى لماذا ؟ " أجاب الفيتوري قائلاً : " ما صنعته أنت فاق خيال الشعراء ، ولذلك ليس هناك شاعر قادر أن يُجاريك " ضحك القذافي ورد تحية الفيتوري قائلاً : " أتعرفون أن الشاعر الفيتوري عندما قرأت قصيدته ( نشيد أفريقيا ) أستلهمتُ منه سلطة الشعب ، حين قال : الملايين أفاقت من كراها ماتراها ، ملأ الأفق صداها "

- أتجه القذافي صوب الشلطامي ليسمع منه إجابة عن سؤاله ، وفى هذه اللحظة أشفقت على صديقي الشلطامي ، ياترى ماذا ستكون إجابته بعد إجابة الفيتوري ، لم يتأخر الرجل وتحدث بهدؤ وثبات قائلاً : " إنني لا أرى للشعر إلا رسالة واحدة وهى المعارضة ، والآن لم يعد مسموحاً بها "

- القذافي يُخاطب الشلطامي قائلاً : " أستغرب كيف تُسجن ، أنت شاعر ثوري ، من الذى سجنك ؟ هذا جاهل لا يفهم ، أستغرب كيف يقولون عنك شيوعي " أجاب الشلطامي قائلاً : " من يتهمني بالشيوعية من أعتقلني ، وانت تتهمك السعودية بأنك شيوعي ، لقد كنت أعذب فى السجن ، ويقولون لي : أعترف أنك شيوعي ، ويمسك أحدهم بدليل الإدانة ( سجادة الصلاة الحمراء ) ، التى عُرفت بسجادة الشيوعي "

- ضحك القذافي وقال : " هؤلاء جهلة ، لا يفهمون ، يجب أن تُطبع كل دواوينك ، انت شاعر ثوري تعرضت للظلم " فى ختام اللقاء طلب القذافي من الشلطامي أن يبعث إليه بعدد جريدة الحقيقة الذى نشر فيه قصيدته ، لستُ أدرى : هل أراد القذافي أن يقرأ القصيدة ، أم أراد أن يتأكد من صدق محمد الشلطامي بأن القصيدة قد نُشرت فعلاً فى جريدة الحقيقة.