ألوان ثيابهم باهتة، كانت لتبدو أكثر بهتانا لو كانوا أقل تعرّقا، لكن الحماسة في الغرفة حيث يعملون على أشدّها، يثورون فجأة، يرفعون أيديهم في الهواء ويصرخون، مرة من نشوة ومرة من خيبة. يصولون في الغرفة المكتظة، يدوسون بغير اكتراث أوراقا كثيرة مبعثرة هنا وهناك، في ما يبدو أقرب إلى الحطام، منه إلى غرفة تقرر فيها مصائر الملايين من البشر. يتجادلون حول عقود الفول والقمح وحتى الشعير.
هناك، حيث يتم توزيع الطعام على العالم.. تبدو الشهية معدومة إلا على مزيد من الأموال. هناك، في إحدى طبقات مبنى مجلس شيكاغو للتجارة، أكبر مركز للمضاربة بأسعار السلع الغذائية، يتم تحديد أسعار القوت اليومي للفقراء.. والأرباح التي يكدّسها الأغنياء من المستثمرين، هي طبقة حيث «الرأسمالية مجسدة في أنقى أشكالها». هناك «يتم صنع أصحاب الملايين»، كما قال متبجحا، المضارب منذ 27 عاما ألان كنوكمان لمجلة «دير شبيغل» الألمانية.
مجرد مراقبة سريعة لرسم بياني يتابع «التخبّط» في أسعار السلع الغذائية، تكشف كيف أن أسعار المطاط والذرة والقطن تضاعفت، ثم انخفضت قبل أن ترتفع إلى أربعة أضعاف.. كل ذلك حدث في السنوات الخمس الأخيرة.
انها ليست «رقصة تانغو» بين العرض المحدود والطلب المتنامي، بل نتيجة جشع المضاربين والمصارف المركزية والمستثمرين، بشهادة مجلة «ماريان» الفرنسية، و«ذا اطلانتيك» الأميركية و«دير شبيعل».
في تموز الماضي، وجد مصرف «سانت لويس» الفدرالي أن «الطفرة» في أسعار السلع الغذائية هي «فقاعة نجمت أساسا عن الإفراط في المضاربة في أسواق السلع الغذائية الآجلة»، وإن حاول المصرف إرجاع الارتفاع الجنوني في أسعار السلع الزراعية إلى ثلاثة أسباب على الأقل، الأول هو ما أسماه «صدمات العرض»، مذكراً بأن ارتفاع سعر القمح بنسبة 47 في المئة العام الماضي، كان مردّه «الجفاف في روسيا والصين، والفيضانات في كندا وأستراليا»، السبب الثاني هو «صعود الصين والهند»، اللتين تضاعفت حصتهما في سوق الألومينيوم والنحاس إلى أربعة أمثال منذ العام 1995. أما السبب الثالث فهو «تنامي الطلب على الوقود الحيوي»، المتعارف على تسميته «المحروقات الغذائية». ورأى المصرف أن ارتفاع الطلب على الإيثانول والديزل الحيوي يعني ان حاجاتنا للطاقة «تأكل مما يفترض انه فائض في الذرة».
هكذا تتسبب المصارف بالمجاعة!
إزاء هذه الخلاصات، حاولت مجلة «ذا اطلانتيك» تشريح «العلاقة غير المفهومة بين معدلات الفائدة المنخفضة في الولايات المتحدة وبين المضاربة المالية والأسعار المرتفعة للسلع الغذائية»، حيث «يريد الاحتياطي الفدرالي من المصارف إقراض المزيد من الأموال، ولهذا هو يخفض معدلات الفائدة ويشتري من المصارف أصولا مخاطِرة لقاء السيولة. ثم يُفترض استثمار هذه الأموال للحصول على عائدات أكبر»، فما الذي قد يوفّر هذه العائدات الأعلى غير السلع التي ما تنفك أسعارها ترتفع في كل أجل قريب. هكذا «يراقب المستثمرون اللاتوازن بين الطلب المتنامي والعرض المتناقص، يراهنون على سعر الذرة والقطن والنفط وغيرها، متوقعين ان هذه الأسعار ستواصل تحليقها، على الأقل إلى أن يتمكنوا من تحقيق الربح من استثماراتهم»، باختصار «هكذا تتسبب المصارف بالمجاعة».
كيف يضاربون بقوت الفقراء؟
تعود «ذا اطلانتيك» للأصل، وتقول ان فكرة المضاربة نشأت لمساعدة المزارعين على التعامل مع الضبابية التي تحيط بالمحاصيل، وتم ابتكار مفهوم «العقود الآجلة» لتمكّن المزارعين من بيع محاصيلهم في موعد لاحق وبسعر مضمون. لكن منذ 1999 أجرت «لجنة التجارة بالسلع الآجلة الأميركية» تعديلا على قواعد السوق يخوّل المصرفيين والتجار ممن لا علاقة لهم (أو لهم علاقة بسيطة) بالغذاء الذي تتم المتاجرة به حاليا، بيع وشراء تلك العقود الآجلة، باعتبارها عقوداً تمثل فرصة للربحية، وفق ما ترويه «دير شبيغل».
في 2004، وسّعت «لجنة الأمن والتبادل الأميركية» المدى حيث يمكن للمصارف أن تستثمر في سوق السلع الغذائية، إذعانا لعريضة رفعتها مصارف «ليمان براذرز» و«مورغان ستانلي» و«بير ستيرنز» و«جاي بي مورغان» لتخفيف قواعد ما يسمى «رأسمال الأسهم العادية». وهكذا بات بإمكان المستثمرين المتاجرة برأسمال يفوق بـ40 مرة عما كان عليه سابقاً.
العقود الآجلة، تماما كما في سوق النفط، تباع «مئات لا بل آلاف المرات قبل أن يحين موعد استحقاقها»، والمشترون يخيّرون بأن يتنازلوا عن الصفقة في حال الخسارة، «بمعنى أن بإمكانهم تحصيل الربح الكبير، مع ضمانات بأنهم لن يخسروا شيئاً»، كما شرحت مجلة «ماريان»، موضحةً أن «المضاربين يحصلون على وعود ببيع عقود القمح مثلاً في تاريخ معين، وتدير شركات أو مكاتب متخصصة في المؤسسات المالية، كالمصارف مثلاً، عمليات البيع والشراء المتكرر (إلى أن يحين موعد الاستحقاق)»، مانحةً المشترين خيارات الاستثمار في ما بات يعرف بالفاءات الثلاث «الغذاء» (Food) و«نمو الطلب» (Feed)، و«الطاقة الحيوية» (Fuel)، مع «خيار التحرر من النظم الملزمة التي تحكم أسواق المواد الأولية كالتخزين والتوصيل والنقل».
جراء هذه الوعود المغرية، هيمن المضاربون الماليون على أسواق العقود الآجلة، خلال العقد الأخير. رهانهم على ديمومة ارتفاع أسعار السلع الغذائية بصرف النظر عما يجري في العالم الحقيقي، ساهم بالفعل في رفع الأسعار. إذا ارتفع السعر الآجل للغذاء، فإن السعر الحالي للغذاء سيرتفع أيضا، لأن مشتري الغذاء وبائعيه ينظرون إلى أسواق العقود الآجلة على انها المرشد.
وخلال خمس سنوات فقط، تضاعف حجم المضاربة المالية في سوق السلع الغذائية لمرتين على الأقل. وبحسب «ذا اطلانتيك» كانت الأموال التي تنفق على المضاربة المالية في سوق الغذاء في الولايات المتحدة في 2006 نحو 65 مليار دولار، مقارنةً مع 126 مليارا في 2011، في حين تقول «دير شبيغل» انه خلال الربع الأخير من 2010 وحده، تضاعف حجم الأموال التي استُثمرت في السلع الغذائية ثلاثة أضعاف مقارنة مع بقية العام. المصارف، في هذه المعادلة، تحقق الأرباح جراء العمولات التي تتلقاها من كل مستثمر جديد تسهّل دخوله إلى السوق الآجلة ليضارب بماله الخاص في سوق السلع الغذائية.
عالم غني بعدد فقرائه
أما الفقراء في هذه المعادلة فهم الخاسر الأكبر. ارتفاع أسعار السلع الغذائية الأساسية يعني أن فقراء العالم أجمع سيجوعون أكثر، والملايين من ذوي الدخل المحدود سينضمون إلى طبقة الفقراء.
منذ حزيران الماضي، انضم 44 مليون شخص الى قائمة من يعيشون تحت خط الفقر، بسبب ارتفاع أسعار السلع الغذائية.(البنك الدولي). وعلى هؤلاء ان يعيشوا بأقل من 1.25 دولار في اليوم. وكانت المضاربة بالقوت دفعت أسعار الغذاء إلى مستويات قياسية في 2007-2008، ما تسبب بأزمة غذاء عالمية. لم توقف الأسعار تحليقها وبلغت حدا قياسيا في آذار الماضي، تجاوز مستويات أزمة الغذاء، بحسب الأمم المتحدة. ووفقا لمؤشر أسعار الغذاء، التابع للمنظمة الدولية، ارتفعت كلفة الغذاء بالإجمال بنسبة 39 في المئة خلال عام واحد، فيما ارتفعت أسعار الحبوب بنسبة 71 في المئة («دير شبيغل»).
كما أن شخصا من كل سبعة في العالم يعاني من سوء التغذية «المزمن». في أفريقيا تصبح المعادلة كما يلي: «شخص من كل ثلاثة». في القرن الأفريقي يعاني 10 ملايين شخص من أزمة غذاء شديدة. («ذا اطلانتيك»)، أما سعر الأرز فزاد بنسبة 204 في المئة مقارنة مع 2002، وزاد سعر القمح بنسبة 164 في المئة، بينما زاد سعر الذرة بنسبة 260 في المئة. («مجلس العلاقات الخارجية»).
عن «دكتاتورية» المضاربين
لا شيء يبرر «الجنون» في ارتفاع أسعار السلع الغذائية، برأي مجلة «ماريان» سوى أن «العالم بات تحت رحمة دكتاتورية المضاربين» الذين «يتاجرون بجوع الناس، واختاروا وجهةً لأموالهم سوق حليب الأطفال ورغيف العيش اليومي».
نموذج بسيط:
لو عرضنا في المزاد قطعة لحم، وعرض أحدهم لشرائها دولاراً واحدا، فيما عرض آخر 150 دولاراً، ترى من سيتناول عشاءه حينها؟
هكذا يعمل المضاربون، وهكذا يأكلون قطعة اللحم تلك، فيما يموت الآخرون جوعاً. فهل يدرون ما هم فاعلون؟
لا يبدو ذلك. المضارب ألان كنوكمان، الذي أسس شركته الخاصة ويعمل محللا في شركة «اغورا فاينانشالز» الاستشارية المتخصصة في الاستثمارات في السلع، يعدك بأن «يتاجر بأي شيء تأتيني به. أنا هنا لأصنع المال» ولا يعنيه كيف سيصنع هذا المال؟
كنوكمان ليس إلا مضارباً واحداً من بين كثيرين «يفجرون فقاعة مضاربة. هم المجرمون الذين يستثمرون بشدة في سوق السلع الغذائية»، كما نقلت «دير شبيغل» عن المستشار الخاص في الأمم المتحدة اوليفييه دو شاتر.
عندما سئل كونكمان عن الفقراء والغذاء. قال الرجل ذو الـ42 عاما ان «زمن الغذاء البخس ولّى». ليس أمراً سيئا لبعض الناس برأيه «فغالبية الأميركيين يأكلون كثيراً»، أما فكرة ان الفقراء لا يستطيعون الحصول على قوت يومهم فليست سوى «أثراً جانبياً لديناميكية السوق»!