بينما تبدو الاستفادة من المواهب الواعدة لجيل الشباب مهمة عسيرة، فإنها يمكن أن تبرهن على كونها خطوة جوهرية لدول منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إذا أرادت الحفاظ على تلك المواهب لصالح اقتصادها. فوفقًا لما جاء في المنتدى الاقتصادي العالمي، يتعين إيجاد 75 مليون فرصة عمل بحلول عام 2020، ولكن يظل السؤال المطروح هو كيف يمكن للمنطقة أن تعمل على زيادة فرص العمل المتوفرة حاليًا بنسبة 40% في غضون تسع سنوات فحسب؟
تمتلك منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا واحدةً من أصغر القوى العاملة عمرًا على مستوى العالم، حيث يُمثل الشباب دون سن الخامسة والعشرين أكثر من نصف تعداد السكان. ويخلق هذا الموقف فرصًا هائلةً وتحديات جمّة على حدٍ سواء؛ حيث يمكن الاستفادة من التعداد الكبير للعاملين الطموحين من جيل الشباب في حفز النمو وخلق الازدهار لدول المنطقة بأسرها، كما رأينا ذلك في الدول الغربية في حِقبة ما بعد الحرب العالمية الثانية، وما تشهده الصين في الوقت الراهن. وتكمن التحديات في توفير فرص عمل كافية للحفاظ على مشاركة الشباب، والأهم من ذلك، للحيلولة دون فقدان المواهب بهجرتها إلى الخارج.
ويفيد خبراء من المنتدى الاقتصادي العالمي، منتدى القيادات العالمية الشابّة، وخبراء من شركة بوز أند كومباني بأن أفضل سبيل لتنفيذ تلك المهمة التي تبدو عسيرة هو رعاية الشركات الناشئة. وقد صاغ هؤلاء الخبراء توصيات ملموسة لتسريع وتيرة الأعمال الحرة في المنطقة؛ والتي تتمثل في عشر أولويات (مُفصّلة لاحقًا) يمكن للجهات المعنية في بيئة الأعمال الحرة انتهاجها. وأفاد؟ و صدّي رئيس مجلس إدارة شركة بوز أند كومباني: «نعتقد أن العامل الأساسي في تسريع عملية خلق فرص العمل هو تعزيز بيئة أعمال حرة يمكن لأصحاب الأعمال في ظلها إنشاء شركات جديدة بسهولة، ونشر الابتكار، ودفع عجلة النشاط الاقتصادي في العموم.
ومن أجل تحقيق هذه الغاية، يجدر بصناع السياسات وقادة الأعمال بدايةً تحديد العوامل التي تحفز الأفراد على إنشاء أعمالهم الحرة، ثم فهم عناصر البيئة السليمة للأعمال الحرة، وتحديد أي من تلك العناصر غائبة أو غير جاهزة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا». وأضاف ؟و صدّي أن من بين تلك العناصر التي قد تكون غائبة ثقافة الأعمال الحرة، والإطار التنظيمي، والبنية التحتية، والمستثمرون المساهمون، والتمويل اللازم للمشاريع الصغيرة والمتوسطة، والتوعية الرسمية حول الأعمال الحرة. ويُطلق مسمى صاحب العمل الحر في هذه المقالة على الشخص الذي يملك أو يُنشئ مشروعا جديدا. وأفاد حبيب حدّاد، وهو الرئيس التنفيذي لمنصة ومضة: «ثمة مزايا متعددة في تعزيز بيئة موائمة للشركات الناشئة التي لا تقتصر مزاياها عند حد توظيف أصحابها ولكنها تمتد لتؤثر بشكل كبير على الاقتصاد بأكمله. وحيث إن الشركات الناشئة بمقدورها أن تنضج لتصير شركات صغيرة ومتوسطة، فهي تساهم بشكل كبير في عملية التوظيف والناتج المحلي الإجمالي».
وإذا نظرنا بشكل مبدئي إلى نشاط الأعمال الحرة في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا سيبدو لنا غاية في القوة؛ حيث يمثل السكان العاملون في مجال الأعمال الحرة في الدول العربية نسبة 13% من إجمالي نظرائهم في المنطقة، بما يفوق بكثير (أكثر من الضعف في بعض الحالات) دول على غرار الولايات المتحدة (8%)، والمملكة المتحدة (6%)، واليابان (3%). وعلى الرغم من ذلك، فإن هذه الإحصاءات خادعة، حيث ترجع هذه النسبة العالية إلى عنصر الاضطرار لأن تجار المنتجات زهيدة الثمن يسعون إلى تلبية احتياجاتهم الأساسية.
وهذا النوع من أصحاب الأعمال يتطلب الدعم الحكومي، ولكن على السلطات أن تركز جهودها على أصحاب الأعمال المميزين القادرين على الابتكار أو معرفة الفرص المتوفرة في السوق واغتنامها، وهؤلاء لهم تأثير إيجابي على زيادة فرص العمل والتنمية الاقتصادية ويستحقون التشجيع. وقد وضعت بعض الحكومات بالفعل مبادرات موجهة (واحة العلوم والتكنولوجيا في قطر، وبرنامج «سند» العماني، والمركز التونسي لقيادات الأعمال الشابة) من أجل تحقيق ذلك الهدف. وصرحت ثريّا السلطي، وهي النائب الأول لرئيس مؤسسة إنجاز لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا: «من الضروري لحكومات المنطقة أن تبدأ في تبنّي التفكير الابتكاري والعمل بشكل حاسم على تحفيز خلق فرص العمل. ويعد تشجيع الأعمال الحرة إحدى السبل التي تجعل الشركات الناشئة تجذب الشباب اللامعين والمبتكرين، والذين سيساعد إصرارهم على النجاح على دفع النشاط الاقتصادي، وخلق فرص العمل، وفتح المجال أمام فرص جديدة للآخرين».
ثمة عشر أولويات يتعين انتهاجها من جانب جميع الجهات المعنية في بيئة الأعمال الحرة، والتي تتضمن على سبيل المثال لا الحصر: الحكومات والمنظمات الأهلية، والشركات، وأصحاب الأعمال ذاتهم، بغرض التأثير في البيئة الشاملة وتحسينها وخلق ثقافة الأعمال الحرة. تتضمن تلك الأولويات ما يلي:
1- تقديم المساعدة: على أصحاب الأعمال الناجحين توفير الوقت الكافي والمشورة والأموال التأسيسية لأصحاب الأعمال الطموحين. إن رجل الأعمال الناجح هو مصدر الإلهام الأول للجيل التالي من أصحاب الأعمال. ويمكن لأصحاب الأعمال الناجحين المشاركة بطرق مختلفة، من بينها المشورة والتعاون مع المنظمات الأهلية بهدف إقامة مؤتمرات وإنشاء برامج يمكن لأصحاب الأعمال الطموحين الاستفادة منها. فعلى سبيل المثال أنشأت كل من لندا روتنبرج وبيتر كيلنر منظمة إنديفور في عام 1997 لتشجيع الشركات الناشئة، وهي منظمة غير ربحية تعمل في أكثر من 10 دول ناشئة وتخطط للتوسع في السنوات المقبلة.
2- تغيير السلوك وتطوير الثقافة: مناقشة فكرة الأعمال الحرة يوميًا والترويج لقصص النجاح. بمقدور الشخصيات العامة الترويج للأعمال الحرة بل وجعلها مثالية وجذابة في نظر الشباب، كما يمكنها استخدام مكانتها في تغيير الرأي العام حول قيمة إنشاء عمل حر. وهذا الأمر في غاية الأهمية ولاسيما في الشرق الأوسط، حيث يفضل الناس الحفاظ على وظيفة حكومية ثابتة بدلاً من مغامرة الشروع في عمل حر. ولكن من الممكن إقناع هؤلاء الأفراد المترددين بخوض تلك المغامرة إذا جرى توعيتهم بالمكاسب التي تعود على الفرد والدولة من جرّاء العمل الحر. وعلى القطاع الخاص أن يؤدي دوره عن طريق إعلان أنشطته بشكل أكبر؛ حيث ينبغي أن تقوم المنظمات الأهلية بدعوة وسائل الإعلام لحضور المؤتمرات والمنتديات، ودعوة الأفراد إلى إجراء مقابلات شخصية لإعلان نجاحاتهم.
3- التوعية بالأعمال الحرة في قاعات الدراسة: ضرورة توعية كل فرد في المدرسة الثانوية والجامعة عن مبادئ العمل الحر. على وزارات التربية والتعليم في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التعاون مع المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم في جهد إقليمي مشترك من أجل تشجيع المناهج التي تقدم معلومات عن الأعمال الحرة. وتتمثل أول خطوة في هذا الجهد في تثقيف المعلمين لكي يكون بمقدورهم نقل معارفهم إلى الطلاب وتشجيع فكرة الأعمال الحرة في مرحلة مبكرة. وفضلاً عن ذلك، يمكن إنشاء درجات علمية وتنظيم دورات تدريبية في مجال الأعمال الحرة لتغطية الموضوعات الأساسية لإنشاء مشروع ناجح (مثل: تخطيط الأعمال وإدارة المخاطر)، إضافةً إلى الدورات الدراسية التي توفر ندوات متخصصة يقوم خلالها الطلاب بوضع خطط عمل لعرضها على المستثمرين المساهمين أو أصحاب رأس المال الاستثماري. كما يمكن للجامعات تقديم الدعم خارج نطاق الدراسة إلى نوادي أصحاب الأعمال.
4- تشجيع الأعمال الحرة في أماكن العمل: على الشركات تشجيع موظفيها على إطلاق مواهبهم الكامنة. ينبغي أن تعتمد الشركات اعتمادًا أساسيا على موظفيها لاستيحاء أفكار ريادية من أجل الابتكار في مجال الأعمال الحرة، ولكن عليها أولاً المساعدة في تحرير تلك المواهب. حيث يمكن للشركات الاستفادة من ذلك عن طريق وضع إجراء داخلي لتقييم وتمويل الأفكار الريادية لموظفيها، فضلاً عن توفير الوقت اللازم لدراستها، إما خلال يوم العمل أو إجازة مدفوعة الأجر، مع تقديم مزيد من الدعم بمجرد إنشاء الشركة الجديدة. فعلى سبيل المثال، قامت أرامكو السعودية بإنشاء مركز للأعمال الحرة لتوفير التواصل والتسهيلات التنظيمية والتمويل والمتابعة والتوعية للشركات السعودية الناشئة.
5- عدم محاكاة تجربة وادي السيليكون: ضرورة التعرف على الموارد المميزة لدولتك والعمل على الاستفادة منها. في حين جرت العادة على محاكاة النجاح الذي حققته تجربة وادي السيليكون، على الحكومات، والمنظمات الأهلية، والمجموعات الخاصة أن تدرك أن هذا الوادي المحوري القائم على استحياء الأفكار والذي تطور بفضل مجموعة عناصر متشابكة ومقدار وافر من الحظ، تجربة يصعب تكرارها. ولكن على الجهات المعنية في بيئة الأعمال الحرة التركيز بدلاً من ذلك على المزايا التي تتمتع بها المنطقة، والتي قد لا تكمن في تقنية المعلومات بل في الموارد الطبيعية (النفط والغاز والفواكه والخضروات والمياه والأسماك)، أو الوضع الاستراتيجي (مثل المراكز بين المناطق التجارية، أو نقاط الوصول من منطقة إلى أخرى، أو القرب من مقصد سياحي أو ديني)، أو المناخ (الذي يمكن أن يلائم زراعة أنواع معينة من النباتات مثل القهوة أو المانجو، أو يساعد على القيام بأنشطة سياحية مثل التزحلق على الأمواج والغطس السطحي والغوص العميق)، أو الموارد البشرية (مثل الخبرة في زراعة التمور بالمملكة العربية السعودية، وخبرة الضيافة في مصر).
6- تشجيع الأفكار الجديدة: إشراك العمالة المحلية والأجنبية لتشجيع حرية تدفق الخبرات والمشاريع. تعوق قوانين الهجرة والتجنيس في المنطقة حرية تدفق المواهب والخبرات، مما يجعل أصحاب الأعمال المحليين في وضع غير مؤات ويثني رجال الأعمال الأجانب عن إنشاء مشاريعهم. لذا ينبغي تبسيط قوانين الهجرة بدرجة تتيح للشركات الناشئة إمكانية الحصول على الخبرات التي تحتاجها. كما يجدر بالحكومات مراجعة القوانين التي تقيّد من ملكية الأجانب للعقارات والشركات والأسهم، حيث يحدّ ذلك من المساهمة الأجنبية في المشاريع المحلية.
7- كسر الصورة النمطية: قد تأتي أفكار الأعمال العظيمة من أي فرد في أي مجال عمل. يمكن أن تأتي الأفكار الجيدة من أي فرد في أي مكان وفي أي وقت، وهي ليست حِكرًا على النمط التقليدي للأعمال المتمثل في الشباب اللامع الذي يمتلك فكرة تقنيّة مبتكرة، وهو النموذج الذي فرضه نجاح مؤسسو محرك البحث جوجل والموقع الاجتماعي فيسبوك، إضافةً إلى موقعي يملي ووبرا. ولا يلزم أن تكون جميع الشركات الناشئة مرتبطة بمجال تقنية المعلومات لتكون ناجحة. وعلى الحكومات والمنظمات الأهلية تشجيع مبادرات الأعمال التي تستفيد من الموارد الفريدة للدولة، من دون التركيز على مجال تقنية المعلومات. فمن الحكمة إنشاء حاضنات غير تقنيّة توفر المتابعة والتوجيه والمساعدة والدعم المالي لأصحاب الأعمال في شتى المجالات. وعلى نفس المنوال، يتحتم على شركات رؤوس الأموال الاستثمارية إنشاء صناديق تستهدف دعم المجالات غير التقنيّة على غرار السلع الاستهلاكية والبيع بالتجزئة والتعليم.
8- احتضان العقول المهاجرة: الاستفادة من خبرات واتصالات أصحاب الأعمال الناجحين في الخارج. عانت المنطقة سنوات طوالا من فقدان المواهب التي تسعى إلى فرص العمل بالخارج، حيث ينعمون بالحكومات المستقرة والنظم القانونية والاقتصادية الأكثر تطورًا. لذا فمن الحكمة أن تستفيد الحكومات والمنظمات الأهلية في المنطقة من تلك الشبكة الهائلة من خبرات الأعمال للحصول على مشورة والأفكار. ويعد مجلس العمل اللبناني نموذجًا لمنظمة ورابطة أعمال عالمية تستضيف فعاليات التواصل بين الجاليات اللبنانية في شتى أرجاء العالم.
9- إزالة قيود الروتين: يجدر بالحكومات أن تقدم مختلف أوجه الدعم إلى جميع أنواع أصحاب الأعمال. على الحكومات أن تعمل على تحقيق مركزية الإجراءات الإدارية اللازمة لإنشاء مشروع وتبسيطها واختصارها (وخفض التكاليف القانونية). حيث يمكنها تعديل القواعد المعنية لتيسير حصول الشركات الناشئة على التمويل، بل وتقديم دعمها للمحافل التي يلتقي فيها أصحاب الأعمال والمستثمرين. فقد أثبتت دورات الإدارة التي تدعمها الحكومة نجاحها في سنغافورة، حيث حقق الاقتصاد نموًا قدره 14,7% في عام 2010، ويمكن أن تتخذ الحكومات التجربة السنغافورية نموذجًا يُحتذى به.
10- توسيع نطاق نموذج رأس المال الاستثماري: من الضروري توسيع نطاق رؤوس الأموال الاستثمارية من التمويل إلى توفير هيكل دعم لأصحاب الأعمال. على شركات رؤوس الأموال الاستثمارية أن تبادر بالسعي إلى اكتشاف الشركات الناشئة الواعدة بدلاً من انتظار أصحاب الأعمال حتى يأتوا إليها. فيمكن أن تساعد شبكات أصحاب الأعمال في الحصول على أفكار واعدة، ولكن هناك طرق مبتكرة أخرى للعثور على الفرصة المذهلة التالية، فعلى سبيل المثال، يمكن أن تبحث تلك الشركات عن الشركات الصغيرة التي رفضت البنوك إقراضها.
وبمجرد أن تبدأ تلك الشركات في الاستثمار في شركة ناشئة، فعليها القيام بدور أكثر فعالية مثل تعيين فريق من الخبراء المختصين لتوجيه أصحاب الأعمال أو تقديم المساعدة في هيئة قرارات تكتيكية وتخطيط طويل الأمد. واختتم أحمد يوسف شريك في شركة بوز أند كومباني بالقول «سيستغرق ايجاد ثقافة الأعمال الحرة بعض الوقت، ولاسيما في منطقة لا تحظى فيها تطلعات الأعمال الحرة بالفهم الجيد، أو بالأحرى، الاحترام الكافي. فكل شخص لديه الدوافع لخلق فرص العمل وتحقيق النمو الاقتصادي عليه أن يبذل جهودًا منسقة ومتضافرة من أجل إيجاد بيئة أعمال حرة حيث يعتمد النجاح فيها على كل فرد يتحمل المسؤولية ويبادر بالعمل من تلقاء ذاته ويحفز الآخرين على ذلك».
إن منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في حاجة ماسة إلى بيئة أعمال حرة ناضجة لتوفير فرص العمل اللازمة لسكانها الذين بلغوا سن العمل والآخذين في النمو السريع، لكي يتمكن المجتمع من الاستفادة الكاملة من مواهب وأفكار أفراده على اختلاف مراحلهم العمرية وخلفياتهم الثقافية. والتوصية التي يجدر بالجهات المعنية أن تضعها نصب أعينها هي أن تعمل الآن من أجل إرساء الأساس للشباب في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا من أجل تسخير طاقاتهم لصالح بلدانهم.