باحثة من وايل كورنيل للطب – قطر تدرس السّميات الصحراوية وإمكانية إيجاد علاج للألزهايمر

قد يجد العلماء في أحداث شهدت فصولها صحراء منطقة الشرق الأوسط إبّان حرب الخليج الأولى ضالتهم في خضم سعيهم الدؤوب لتطوير علاج لمرض ألزهايمر. وفي هذا الإطار، تعمل الدكتورة أسبا تشاتزيفثيميو، عالمة الإيكولوجية الميكروبية والباحثة في وايل كورنيل للطب - قطر، ضمن ائتلاف علماء يتألف من أكثر من 50 عالماً من أنحاء العالم يعكفون على إجراء بحوث عن الأمراض العصبية التنكّسية مثل مرض ألزهايمر، ومرض شلل الرّعاش (باركنسون)، والتصلب الجانبي الضموري (ما يُعرف أيضاً باسم مرض العَصَبون الحركي أو داء لو غيريغ).
وتعكف الدكتورة تشاتزيفثيميو على دراسة دور البكتيريا الزرقاء الصحراوية، ما كان يُعرف في السابق باسم الطحالب الخضراء المزرقّة، واستكشاف ما إذا كانت السّميات العصبية الناتجة عنها مسؤولة جزئياً على أقلّ تقدير عن استهلال العديد من الأمراض العصبية التنكّسية. وقد لوحظ الدور المحتمل للسُّميات الصحراوية لأول مرة في فترة الأعوام العشرة التي تلت حرب الخليج الأولى وتحرير الكويت.
وأوضحت الدكتورة تشاتزيفثيميو ذلك قائلة: "تبيّن أن معدل الإصابة بالتصلب الجانبي الضموري بين العسكريين الأميركيين الذين انتشروا في منطقة الخليج خلال حرب الخليج الأولى قد وصل إلى ثلاثة أضعاف أقرانهم الذين تلقوا التدريبات ذاتها دون أن ينتشروا في المنطقة. فقد تدرّب هؤلاء الجنود معاً في الولايات المتحدة وتشابهت خلفياتهم وخبراتهم. والفرضية المطروحة هنا أنّ ما تسبّب بالإصابة بهذا المرض لاحقاً هو استنشاق جسيمات الغبار في الصحراء، فقد كان هؤلاء الجنود يلاحقون عربات عسكرية في الصحراء تثير طبقة التربة المعروفة باسم قشور التربة البيولوجية التي تضم البكتيريا الزرقاء والسُّميات التي تفرزها وتجعل منها هباء منثوراً في الهواء".
وكان أول من أثار الاهتمام في البكتيريا الزرقاء كأحد الأسباب المحتملة للأمراض العصبية التنكّسية عالم الإنثولوجية النباتية الدكتور بول كوكس، المدير التنفيذي للمؤسسة البحثية غير الربحية Brain Chemistry Labs ومقرُّها ولاية وايومنغ الأميركية. وقد اكتشف الدكتور كوكس، ومعه زميلته الدكتورة ساندرا باناك، أن القرويين المحليين في جزيرة غوام الواقعة في المحيط الهادئ يعانون مستويات مرتفعة من الاضطرابات العصبية التنكّسية بسبب ميلهم إلى التهام خفافيش الفاكهة المحلية. واعتادت تلك الخفافيش أكل بذور أشجار السيكاد، ما جعل مادة سُمّية في بذورها تُعرف اختصاراً باسم "بي إم أيه أيه" BMAA تتراكم في أنسجة الخفافيش، وتلك المادة السّمية أفرزتها بكتيريا زرقاء موجودة في جذور أشجار السيكاد.
وتتلف مادة "بي إم أيه أيه" العَصَبونات، أو الخلايا العصبية، بطرق عدّة ويُعتقد بأنها تتسبب في اضطرابات دماغية مثل مرض ألزهايمر. وفي سياق البحث عن طرق لصدّ السّميات العصبية، توصّل الدكتور كوكس وفريق الباحثين العاملين معه، إلى أن حمضاً أمينياً شائعاً يُعرف باسم "إل-سيرين" (L-serine)لا يصدّ المادة السّمية "بي إم أيه أيه" فحسب، بل يقوم في الوقت نفسه بدور في حماية العَصَبونات أيضاً. وفي إطار تجارب إكلينيكية بشرية حاصلة على موافقة هيئة الغذاء والدواء الأميركية، يعكف فريق الباحثين الآن على استقصاء في ما إذا كان إل-سيرين يمكن أن يبرهن فعاليته كعلاج للأمراض العصبية التنكّسية مثل مرض ألزهايمر.
وعلّقت الدكتورة تشاتزيفثيميو قائلة: "نعرف اليوم أن مادّة "بي إم أيه أيه" تمثل أحد العوامل المسبّبة للأمراض العصبية التنكّسية، وتُعدّ هذه المادة عامل إجهاد من بين عوامل عدّة. ووجدنا أن إل-سيرين يوفر حماية عصبية ونعتقد أن بإمكانه أن يسهم في إبطاء تفاقم المرض".
وأشارت الدكتورة تشاتزيفثيميو في هذا السياق إلى دراسة أجراها في عام 2016 الدكتور كوكس وفريق الباحثين العاملين معه على مجموعة من الثدييات العليا، وتمخّضت الدراسة المذكورة عن نتائج إيجابية محتملة، فقد أُطعمت مجموعة قردة أطعمة تحتوى على مادة "بي إم أيه أيه"، والمجموعة الثانية أطعمة تحتوى على إل-سيرين، والمجموعة الثالثة أطعمة تحتوى على مادة "بي إم أيه أيه"وإل-سيرين معاً. فيما تغذّت المجموعة الضابطة على أطعمة غير معدّلة.
وقد وجد الباحثون أن القردة التي تناولت أطعمة فيها مادة "بي إم أيه أيه" قد تشكّلت لديها عقد ولويحات دماغية مرتبطة بمرض ألزهايمر، فيما قلّت كثافة العقد الدماغية بنسبة 80% بين القردة التي تغذّت على أطعمة فيها مادة "بي إم أيه أيه" وإل-سيرين معاً.
وأظهرت مؤخراً المرحلة الأولى من تجربة إكلينيكية أن إل-سيرين آمن ويمكن للإنسان أن يتناوله، مثلما أظهرت تباطؤ تفاقم مرض التصلب الجانبي الضموري بنسبة 85% (مقياس ALSFRS-R) عند اختبار أكبر جرعة. وتحاول المرحلة الثانية من التجربة الإكلينيكية الراهنة عن مرض التصلب الجانبي الضموري الجارية حالياً في مركز دارتموث-هيتشكوك الطبي في ولاية نيوهامبشر الأميركية التوصل إلى النتائج ذاتها. ويُعدّ إل-سيرين من المكمّلات الغذائية المتاحة بسهولة وزهيدة الثمن، ويتوافر طبيعياً في أطعمة مثل البطاطا الحلوة ولحم الديك الرومي والتوفو وغيرها الكثير.
وأشارت الدكتورة تشاتزيفثيميو إلى أنها تدرس، بالتعاون مع مختبر Brain Chemistry Labsوالدكتورة رينيه ريتشر، الأستاذ المشارك سابقاً للبيولوجيا في وايل كورنيل للطب - قطر، كيفية انتقال البكتيريا الزرقاء وموادها السّمية الموجودة في البيئتين الصحراوية والبحرية في قطر إلى الإنسان من خلال سلسلة الأطعمة البحرية والماء والهواء، غير أنها استدركت قائلة إنه ليس ثمة ما يدعو للقلق في هذا الشأن، فالبكتيريا الزرقاء موجودة في البيئات كافة تقريباً على وجه الأرض، بل إنّ لقشور البكتيريا الزرقاء أهمية حيوية خاصة في البيئة الصحراوية لدورها في خصوبة التربة وكذلك تهيئة التربة لتجذُّر النباتات.
وتابعت قائلة: "وجدنا البكتيريا الزرقاء وموادها السّمية في كل ما تمّ اختباره من عينات مياه البحر وقشور البكتيريا الزرقاء والصفائح البحرية. وعندما أجرينا اختباراً للكشف عن مادة "بي إم أيه أيه" في خزانات المياه وسلسلة الأطعمة البحرية في قطر، بما في ذلك السلطعون والحلزون والربيان والأسماك، وجدنا أن العينات كافة خالية من تلك المادة. لكن رُصد وجود بعض المواد السّمية ذات الصلة التي يمكن أن تتحوّل إلى "بي إم أيه أيه"، غير أنها لم تتضخّم أحيائياً على امتداد السلسلة الغذائية، أي أن الكائنات الأكبر حجماً لا تتضمّن كميات أكبر من المواد السّمية عند مقارنتها بكائنات الواقعة في أسفل السلسلة ذاتها. وهذه النتيجة فاجأتنا لأنها تتباين مع نتائج بحوث أجراها باحثون آخرون أظهرت بوضوح أن مادة "بي إم أيه أيه" موجودة وتتضخّم أحيائياً في سلسلة الأطعمة البحرية في فلوريدا بالولايات المتحدة، وكذلك في بحر البلطيق في السويد".
وأردفت قائلة: "خلصنا إلى أن السّميات تتصرف بطريقة تعتمد على المناخ أو الإقليم، وعليهِ يتعين أن تكون الدراسات العلمية المعدّة لتوجيه السياسات العامة والقوانين في ما يتعلق بالحماية من التعرّض لمثل هذه السّميات ذات طبيعة إقليمية أيضاً. وقد نُشرت نتائج الدراسة البحثية في الدوريتين العلميتين المتخصصتين Neurotoxicity Research و Toxico"
ثم أضافت قائلة: "نعتقد أن البكتيريا الزرقاء ربما تفرز المادة السّمية "بي إم أيه أيه" كوسيلة للاتصال، فذلك بمثابة رسالة نصية عند الإنسان أو نداء استغاثة عند الطيور. وربما يمكنها التواصل مع السّميات عندما تتغير الظروف البيئية أو عندما تتغيّر مستويات المغذّيات. ورأينا أيضاً أن هذه السّميات ثابتة أو ذات فترات بقاء طويلة في البيئة، حتى عندما لا يتم إنتاجها على نحو نشط. ونحن ننظر الآن في دلائل إضافية في ما يتعلق بكيفية وسبب إنتاج السّميات وكيف تتحوّل من مادة إلى مادة أخرى، وما هو نصف عمرها في البيئة، وكيف تنتقل مع العواصف الرملية، وكيف تؤثر في نقاء الهواء الطلق، فهذه أسئلة نحاول الإجابة عنها من وجهة نظر إيكولوجية".
يحظى بحث الدكتورة تشاتزيفثيميو بدعمِ منحة برنامج الأولويات الوطنية للبحث العلمي رقم 4-775-1-116 بعنوان "إنتاج البكتيريا الزرقاء الصحراوية للسّميات" والمقدّمة من الصندوق القطري لرعاية البحث العلمي، والتي كانت قد مُنحت إلى الدكتورة رينيه ريتشر التي تشغل حالياً منصب أستاذ مساعد في جامعة ويسكنسون في الولايات المتحدة.
خلفية عامة
وايل كورنيل للطب - قطر
تأسست وايل كورنيل للطب - قطر من خلال شراكة قائمة بين جامعة كورنيل ومؤسسة قطر، وتقدم برنامجاً تعليمياً متكاملاً مدته ست سنوات يحصل من بعدها الطالب على شهادة دكتور من جامعة كورنيل. يتمّ التدريس من قبل هيئة تدريسية تابعة لجامعة كورنيل ومن بينهم أطباء معتمدين من قبل كورنيل في كل من مؤسسة حمد الطبية، مستشفى سبيتار لجراحة العظام والطب الرياضي، مؤسسة الرعاية الصحية، مركز الأم والجنين وسدرة للطب. تسعى وايل كورنيل للطب - قطر إلى بناء الأسس المتينة والمستدامة في بحوث الطب الحيوي وذلك من خلال البحوث التي تقوم بها على صعيد العلوم الأساسية والبحوث الإكلينيكية. كذلك تسعى إلى تأمين أرفع مستوى من التعليم الطبي لطلابها، بهدف تحسين وتعزيز مستوى الرعاية الصحية للأجيال المقبلة وتقديم أرقى خدمات الرعاية الصحية للمواطنين للقطريين وللمقيمين في قطر على حدّ سواء.