انهيارا العملتين الوطنيتين خلال العام الماضي في كل الأرجنتين وتركيا، كان من بين أكبر الانهيارات التي شهدها التاريخ الحديث.
خسر البيزو 55 في المائة من قيمته مقابل الدولار منذ بداية العام الماضي، حتى بلغ مستواه المتدني في أيلول (سبتمبر) الماضي، بينما انخفضت الليرة بنسبة 45 في المائة.
عادة ما تؤدي الانخفاضات الكبيرة في قيمة العملات إلى عكس العجز في الحساب الجاري، حيث تصبح ديناميكيات التجارة أكثر ملاءمة.
هذه هي بالضبط الطريقة التي سارت بها الأمور في تركيا، حيث أدى الانخفاض في الليرة إلى أكبر تعديل للحساب الجاري في تاريخ البلاد، مع تقلص العجز من 5.9 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي في الربع الثالث من عام 2017، إلى 0.9 في المائة بعد ذلك بسنة.
على النقيض من ذلك، شهدت الأرجنتين زيادة في عجز الحساب الجاري، من 5.2 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 6.6 في المائة خلال الفترة نفسها، على الرغم من أن انهيار عملتها بدأ قبل الليرة، وكان أكبر من الانهيار الذي حدث في تركيا.
قواسم مشتركة ونتائج مختلفة
يبدو هذا مفاجئا، بالنظر إلى أن هاتين الأزمتين كان لديهما كثير من القواسم المشتركة. لم يكن كلا البلدين يعانيان عجوزات متماثلة من حيث الحجم فحسب، ولكن وفقا لتقرير الاستقرار المالي العالمي الصادر عن صندوق النقد الدولي، فإنهما أيضا "يبرزان على أنهما زادا من حصصهما من ديون العملات الأجنبية الخارجية منذ عام 2013، ما أدى إلى تعريضهما أكثر من قبل، إلى عدم تطابق العملات الأجنبية ومخاطر إعادة تمويل الديون".
كلا البلدين كانا يديران "برامج اقتراض غير مستدامة"، وفقا لروبن بروكس، كبير الاقتصاديين في معهد التمويل الدولي في واشنطن، وهو هيئة للصناعة وجامع بيانات.
كما أن المخاوف من ضعف المؤسسات، خاصة فيما يتعلق بالبنك المركزي، كانت موجودة أيضا في كلا البلدين، وفقا للمحللين.
إذن ما الذي يفسر وتيرة التكيف المختلفة؟ تكمن الإجابة في مزيج من الاختلافات الهيكلية في القطاع المصرفي، وحجم القطاع العام، وديناميكيات التصدير.
كانت الشركات التركية معرضة بشدة لسعر الصرف، بما يعادل 38 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي المستحق بالقروض المقومة بالعملات الأجنبية في بداية العام الماضي، وفقا للمعهد الدولي. وكان هذا أعلى مستوى في الأسواق الناشئة، بعد المراكز المالية في سنغافورة وهونج كونج.
أدى الضعف في أسعار العملات في العام الماضي إلى ارتفاع التكلفة بالعملة المحلية لخدمة المطلوبات المذكورة بالعملات الأجنبية، ما أدى إلى مخاطر كبيرة من حيث إعادة تمويل الديون، وأساهم في حدوث انهيار سريع في الاستثمار والواردات.
النتيجة الطبيعية لهذه الديون للشركات هي نمو القروض الممولة بالعملات الأجنبية لدى المصارف التركية.
وبلغت المطلوبات الأجنبية كنسبة من إجمالي المطلوبات المصرفية 24 في المائة خلال الأزمة، وذلك وفقا لبيانات صندوق النقد الدولي. وتظهر أحدث البيانات هذا الانخفاض، مع جفاف التمويل الأجنبي وتقليص نمو القروض.
قال ياركين سيبيسي، الخبير الاقتصادي لمنطقة تركيا في بنك جيه بي مورجان في لندن: "خفضت الشركات التركية الرفع المالي لديها بقوة. هذا التخفيض كان إلى حد ما طوعيا وإلى حد ما مفروضا من ظروف السوق".
"تظهر الإحصاءات أن قطاع الشركات قلل من اقتراضه بالعملات الأجنبية من النظام المصرفي، الذي كان بدوره دافعا صافيا للديون الخارجية" حسبما أضاف.
تبادل أدوار بين القطاعين
كانت المطلوبات الأجنبية للمصارف التركية ستة أضعاف المطلوبات من مصارف الأرجنتين، حيث تعاني الأخيرة العزلة عن الأسواق الدولية، فهي لا تمثل سوى 4 في المائة من إجمالي المطلوبات.
وتتفاقم المفارقة في أن ذلك الوضع ترك المصارف الأرجنتينية معزولة عن انخفاض قيمة البيزو، دون أي تأثير مباشر في التمويل أو الإقراض، لعدم الانكشاف أصلا.
في الواقع، استمر الإقراض المصرفي (المعدل لتأثير العملة) في الارتفاع في الأرجنتين، بينما انهار في تركيا.
وهذا أيضا دلالة على حصة الـ40 في المائة من الإقراض المصرفي الموجه إلى القطاع العام في الأرجنتين، حيث استمر نمو الإقراض السريع للقطاع العام منذ أزمة العملة، ما يعوض أثر التباطؤ في إقراض القطاع الخاص.
وفي تركيا، فإن القروض إلى القطاع الخاص، بما يعادل 69 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي، تكاد تكون أكبر بثلاث مرات من قروض الأرجنتين بنسبة 24 في المائة. في تركيا هناك حساسية أعلى من الائتمان تجاه النمو والطلب المحلي. كما أن الوضع فيها يفسر الانخفاض
الحاد في الطلب المحلي والضغط الأكبر على الواردات.
كما أن الأحجام النسبية للقطاعات العامة والخاصة في البلدين مهمة أيضا لحساباتهما الجارية.
كان العجز الكبير في الموازنة العامة في الأرجنتين في السنوات الأخيرة يعني أن عجز الحساب الجاري، كان مدفوعا بالقطاع العام.
على أن عجز الموازنة الأكثر اعتدالا في تركيا جعل القطاع المحرك الرئيس لعجلة الاقتصاد.
ماذا عن الغد؟
هذا يمكن أن يتغير بالنسبة لتركيا في المستقبل، وفقا لإينان دمير، رئيس اقتصادات البلدان الناشئة في أوروبا والشرق الأوسط وإفريقيا في نومورا في لندن.
وقال إن انكماش الطلب المحلي "نذير سوء بالنسبة لمتطلبات الحكومة للاقتراض، على اعتبار أن الاقتصاد الضعيف يعني ضعف تحصيل الضرائب، وإنفاقا أسرع لدعم النشاط الاقتصادي. مشاكل القطاع الخاص يمكن أن ترتحل إلى ميزانية القطاع العام".
هناك عامل خاص آخر بالنسبة للأرجنتين هو التغير في التمويل من المالية العامة اعتبارا من عام 2016.
في محاولة لكبح التضخم، تحولت الحكومة من طبع النقود إلى تمويل العجز، أخذت بوينس آيرس بدلا من ذلك تقترض من الأسواق الخارجية.
أدى هذا الارتفاع في الديون المقومة بالدولار إلى ارتفاع فادح في قيمة ديون الحكومة بالعملات الأجنبية، بأكثر من أربعة أضعاف كنسبة من الناتج المحلي الإجمالي مقارنة بأي سوق ناشئة رئيسة أخرى في العام الماضي.
وقال رافائيل دي لا فوينتي، رئيس اقتصادات أمريكا اللاتينية في بنك يو بي إس في نيويورك، إن تسديد هذه الديون كان عاملا في تعديل الحساب الجاري البطيء في الأرجنتين.
وأضاف أن : "تدهور حساب الدخل الرئيس، مدفوعا بزيادة مدفوعات الفائدة على السندات التي يقتنيها الأجانب.
وقد تضاعفت هذه المدفوعات ثلاث مرات في الأساس خلال السنوات الثلاث الماضية، وتشكل تدفقات خارجية تصل إلى نحو 12 مليار دولار سنويا.
يظهر تحليل البيانات أن تكاليف خدمة الديون تمثل الآن أكثر من نصف عجز الحساب الجاري، مقارنة بنحو الخمس في تركيا.
هذا أيضا يجعل الأرجنتين عرضة للانكشاف أكثر فأكثر، مع ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية.
وأخيرا، فإن قناة التعديل التقليدية القائمة على تحسين القدرة التنافسية للصادرات وضغط الواردات واجهت عوائق في الأرجنتين.
كما أن هناك حالة من الجفاف المبكر أدت إلى كبح الصادرات الزراعية، التي تشكل نحو ربع إجمالي الصادرات، وبالنظر إلى أن أسعار جلها مقوم بالدولار، فإن الطلب لم يتحسن نتيجة الضعف الهيكلي للبيزو، علاوة على القطيعة من السوق العالمية.
على أن معدل نمو الصادرات في الأرجنتين زمجر عائدا إلى المنطقة الإيجابية في الأشهر الأخيرة من العام الماضي، على الرغم من أنه لا يزال متخلفا عن معدلات النمو مقارنة بنظيره من الصادرات التركية، حيث كان بإمكان قاعدة التصنيع الأكبر اكتساب فائدة أكبر من العملة الأرخص، للتصدير أكثر فأكثر.
"كان انخفاض قيمة العملة نفسه أقل قوة في الأرجنتين" مع انفتاح بنحو نصف الانفتاح في تركيا، وذلك وفقا لبروكس.
انتعاش قصير النفس
بدأت الأسواق في كلا البلدين تتعافى من خسائر العام الماضي، بالنهوض من مستوياتها المتدنية في عام 2018، فأصبحت الليرة الآن أقوى بنسبة 30 في المائة مقابل الدولار، في حين ارتفع البيزو بنحو 10 في المائة.
كما انخفضت أسعار الفائدة في السوق من المستويات العالية، على الرغم من أن السياسة النقدية لا تزال عند مستويات الأزمة.
على أنه في ظل أسعار الفائدة لمدة شهر في المصارف بلغت 39.4 في المائة في الأرجنتين و23.6 في المائة في تركيا، فإن أسعار الفائدة تظل من بين أعلى المعدلات في الأسواق الناشئة، وهو ما يعني سياسات انكماشية ترمي إلى محاربة التضخم، بتشجيع الادخار أكثر من تشجيع الاستثمار، وهي سياسات لا تخلو من المخاطرة في السقوط مجدداً في فخ الركود، خاصة أن التعافي ما زال في طور النقاهة.
تأتي أسعار الفائدة العالية على خلفية من الانكماش الاقتصادي الشديد في كلا البلدين.
قال دمير: "منذ الآن تقلص الناتج المحلي الإجمالي بنسبة 1.1 في المائة بشكل ربع سنوي في الربع الثالث من عام 2018 في تركيا، وتشير مؤشرات التردد العالي إلى أن التقلص ازداد عمقا في الربع الرابع".
وأضاف: "عندما تصدر بيانات الناتج المحلي الإجمالي للربع الرابع، من المرجح جدا أنها ستؤكد التعريف التقليدي للركود. في الواقع، تشير مؤشرات التردد العالي إلى تراجع سريع في النمو الاقتصادي أكثر من كونها مجرد ركود فحسب".
ويقدر الاقتصاديون أن اقتصاد الأرجنتين أيضا يتقلص بسرعة، وأن توقعات إجماع المحللين لنمو الناتج المحلي الإجمالي هذا العام تبلغ 1 في المائة.
اقتصاد تركيا وبالتالي عملتها، يبدوان أكثر عرضة الآن للانكشاف من الأرجنتين إزاء المخاطر الخارجية التي تواجهها الأسواق الناشئة، من حيث انخفاض تدفقات رأس المال نتيجة ارتفاع أسعار الفائدة الأمريكية، وتباطؤ النمو العالمي، والتوترات التجارية المستمرة.
حيث إن الحساب الجاري الآن في حالة فائض على أساس شهري، ومع تراجع التوترات الجغرافية السياسية التي كانت سائدة في العام الماضي، وحيث إن التضخم كان يتراجع منذ فترة، ولم يعد هناك ارتفاع في التباين بين الأصول والمطلوبات في العملات لدى الشركات، فإن هناك عدة عوامل تمارس تأثيرها الآن، من أجل مساندة الانتعاش النسبي في سعر صرف الليرة، وبالتالي السماح بتخفيف السياسة النقدية عبر تخفيض أسعار الفائدة، وهو ما يعني معاودة الرهان على الاستثمار.
مفترق الطرق بين الاقتصادين
الأرجنتين، تنتقل من التعديل البطيء في الحساب الجاري والاعتماد على الانضباط في المالية العامة، فيما تلوح الانتخابات في الأفق، إذ من المقرر إجراؤها في وقت لاحق من العام، الأمر الذي يطرح قدرا أكبر من عوامل اللبس لتحيط بالديناميكيات الكلية وصولا إلى مزيد من انتعاش البيزو، على الرغم من برنامج قروض صندوق النقد الدولي الموجه إلى الأرجنتين.
تظل هناك جيوب من الضعف في الاقتصادات الناشئة الكبيرة الأخرى، حيث من المتوقع أن يبقى العجز المزدوج في الميزانية وفي الحساب الجاري في البرازيل والمكسيك وجنوب إفريقيا والفلبين والهند هذا العام، وفقا لتوقعات من صندوق النقد الدولي.
لا يعتمد أي من هذه البلدان على الدرجة نفسها من التمويل الخارجي للحكومة، مثلما كان عليه الحال في الأرجنتين، ولن يكون لها مقدار التباين في الأصول والمطلوبات للعملات لدى الشركات الذي شهدناه في تركيا، في المقابل.
مع ذلك فإن الاختلالات المذكورة تجعل هذه الأسواق عرضة للانكشاف، مع أي تدهور في المزاج العام لتقييم المخاطر، ليس في السوق الدولية فحسب، بل وفي المحلية أيضا.
اقرأ أيضًا:
موديز: اقتصاد تركيا قد ينكمش في النصف الأول من 2019
تركيا تواجه الأزمة الاقتصادية بطرح الصكوك