في أعقاب الهجوم الذي شنه شابان فلسطينيان على كنيس يهودي في القدس وأدى إلى مقتلهما ومقتل خمسة إسرائيليين بينهم شرطي وأربعة مصلين، ارتفعت أصوات تنذر بخطورة انزلاق النزاع الفلسطيني- الإسرائيلي نحو حرب دينية شاملة لا تبقي ولا تذر. هذه العملية التي دانتها السلطة الوطنية بقيادة محمود عباس فيما باركتها فصائل أخرى بارزة في مقدمها حركة حماس والجهاد الإسلامي، جاءت في سياق توتر تخللته مواجهات في باحة الحرم القدسي ومحيطها كما واكبته عمليات دهس وطعن ومواجهات اتخذت على نحو غير معهود كثيرا صورة الدفاع الشخصي والفردي ذي الطابع الشمشوني عن جملة الذاكرة الجماعية للوجود الفلسطيني ومقدساته.
وكان واضحا أن الدعوات الصادرة عن وزراء ونواب وحاخامات إسرائيليين لزيارة الحرم القدسي ليست سوى طريقة للاستحواذ السيادي على القدس الشرقية برمتها. وإذا كانت حكومة نتانياهو سعت إلى التقليل من خطورة جموح المتشددين والمستوطنين بعد ارتفاع حدة الانتقادات الأردنية والفلسطينية، فإن سياسة التغول الاستيطاني واصلت سيرها على رغم الانتقادات والنصائح الغربية المتأففة، الأميركية والأوروبية، للجم هذه السياسة التوسعية.
قبل الخوض في الدلالات المحتملة لعبارات تتخوف، أو تحذر، لا فرق، من تحول الصراع الدائر في فلسطين عموما، وحول القدس تحديدا، إلى حرب دينية، بات من الضروري أن نتوقف عند وجه آخر يتعلق بالمسألة الفلسطينية جملة وتفصيلا. ونعني بذلك الإقصاء الطوعي أو القسري لهذه المسألة التي نسبت لها مكانة مركزية في المخيلة والأدبيات السياسية العربية الحديثة. ومن المعلوم ربما أن الهدف الأكبر من اتفاقية أوسلو اليتيمة وجولات التفاوض الفلسطيني - الإسرائيلي برعاية أميركية حصرية كان إخراج 'القضية' من دوائرها الأكبر، العربية والإقليمية والإسلامية. وترافق ذلك مع 'ازدهار' وعي زائف وشقي راح يدعو إلى التخلص من هذه المسألة باعتبارها نوعا من مرض حكاك جلدي ووجودي لا ترياق له ولا شفاء منه إلا بحذفه من شواغل المجتمعات الوطنية وأولويات تحديثها واستقرارها.
وقد حضنت سياسات إقليمية ودولية، ريعية وزبائنية عموما، هذا الطراز من الوعي كتعبير لائق عن تفويض الأمور إلى أولياء الأمر الدوليين. هكذا، وعلى إيقاع قرف متزايد، ومبرر، من الإيديولوجيات القومجية والفروسيات السلطانية، راحت القضية الفلسطينية تتحول إلى ضيف ثقيل على مشاريع وسياسات لا تفصح عن وجهة ولا عن أفق للوطنيات المنشودة.
هذا الإمعان في اعتبار الفلسطينيين وقضيتهم زائدين عن اللزوم ساهم في تحويلهم من اختبار تاريخي لقدرة العرب على التشكل كلاعب أو فاعل سياسي إلى عبء ثقيل يستحسن التخفف منه عبر تقديم الهبات والمواعظ والتحكم غير المباشر بسياسات الفصائل الفلسطينية المتنافسة من دون أن تفقد ثقلها الوطني العام والعريض. في هذا المعنى يصح القول إن الدعوة إلى التخلي عن 'القضية' الفلسطينية التي لم تكن مركزية حتى في التجربة الناصرية، تستدعي التخلي عن استحقاق صفة الفاعلية السياسية. اللامبالاة، في ظروف تاريخية معينة، هي الوجه الآخر، المكابر للعجز. وبقدر ما يتعاظم النزوع نحو اللامبالاة وإشاحة الوجه عن المسألة بقدر ما يزداد الشعور بداهميتها.
نرجح بالفعل أن يكون هذا هو ما يغلب على طريقة تلقي الوقائع الفلسطينية لدى أعداد متزايدة من العرب المشدودة أنظارهم ومشاعرهم إلى استعراض الهويات المنتفخة، مذهبية كانت أم عرقية أم جهوية. ويعني هذا أن الهم الفلسطيني المقيم تحت القمصان والجبب سيخدش في مقبل الأيام جلودا كثيرة ويجبرها على حك خدوشها.
نأتي الآن إلى الحديث المحذر من الحرب الدينية في فلسطين. وهو حمال أوجه. ذلك أنه يفترض أن المسألة الفلسطينية وصيغة الصراع مع إسرائيل احتفظتا حتى الآن بخصوصية وطنية تضع الفلسطينيين على اختلاف مشاربهم وانقساماتهم في سياق سياسي وفكري ضعيف الصلة بالمناخ العبثي وشبه العدمي الذي تصنعه حروب الهويات الهائجة والمنتفخة. ونحن نرى أن هذه الفرضية لا تجانب الصواب ولا تعدمه. فمنذ نشوء، أو إنشاء، الظاهرة الجهادية المعولمة، مع القاعدة وأخواتها ومشتقاتها، بقي الفلسطينيون عموما ضعيفي الحضور والوزن في هذا النوع من الإسلاموية المقاتلة. والحالات القليلة التي يمكن أن تفيد العكس هي الاستثناء وليست القاعدة.
لا يعني هذا، بطبيعة الحال، أن الساحة الفلسطينية المقطعة الأوصال لم تعرف الإسلام السياسي ولم تتأثر بتموجاته. فهي بالتأكيد عرفت مثل غيرها تنويعات على الروابط الدائرة على الهوية الإسلامية العريضة كقيمة - ملاذ وخشبة خلاص، كما يستفاد من ظاهرة الصعود الكاسح لحركة حماس حتى في ظل زعامة وطنية جامعة ذات ثقل رمزي لا يستهان به كما هي حال زعامة الرئيس المغدور ياسر عرفات. على أن الطلب المتزايد على الإسلام السياسي، أكان وثيق الصلة بحركة الإخوان المسلمين أم بغيرها، ظل مشدودا إلى متطلبات الحفاظ على القوام الوطني الفلسطيني بحيث اتخذ النزاع بين حركتي فتح وحماس شكل تنافس على قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية أكثر بكثير من مجرد صراع شامل بين متدينين وعلمانيين.
فهذا النوع من الصراع، بين علمانيين ومتدينين، ينطبق أكثر على الحالة الإسرائيلية منذ نشأة الدولة العبرية حتى الآن. وقد أفصح قبل أيام عدد من المسؤولين والإعلاميين عن خشيتهم من تعاظم البعد الديني للصراع مع الفلسطينيين ورفضهم ذلك. وقد تكون هذه الخشية معطوفة على الحاجة إلى تدوير الزوايا هي ما حمل حكومة نتانياهو على السماح للفلسطينيين من كل الأعمار بالصلاة يوم الجمعة في المسجد الأقصى. لكن الإصرار على يهودية الدولة وعلى اعتبار القدس كلها عاصمة إسرائيل الأبدية بمقتضى جغرافيا توراتية باركها قادة غربيون يزعمون التمسك بإرث عقلانية الأنوار، وضع المسألة برمتها خارج التاريخ الحديث. من المفارقات الكبيرة أن يكون الفلسطينيون أقرب إلى تغليب البعد التاريخي والوطني على البعد الديني في قراءتهم للصراع مع الحركة الصهيونية. في المقابل يتلاشى هذا البعد في الجانب الإسرائيلي ولا يبقى منه سوى موضوع المحرقة والإبادة النازيين. فالأساطير المؤسسة للسياسة التوسعية الإسرائيلية قامت أصلا على توظيف الدين والعرق في الصراع وإن بطريقة ملتبسة. ولأنها تخاطب الوجه الاستعماري في التاريخ الغربي فإنها تقوم بتذويب الوطنية الفلسطينية في كل ما يحسبه الغرب عدوا.
إقرأ أيضاً: