إذا كان لا بدَّ لـ «الموت» من أن يشغل حيِّزاً في صحافتنا اليومية فَلْيَشْغُل؛ ولكن على شكل «خبر»، صغير الحجم، مستوفٍ عناصر ومقوِّمات «الخبر»، وفي موضع ثابت من الجريدة، فلقد حان لـ «ثقافة الموت»، في مجتمعنا، أن تتغيَّر، وأن تكافح وتصارع ما غزاها من «فيروسات الفساد».
عندنا، لا أكْثَر من الفقهاء الذين يتوفَّرون على إصدار فتاوى التحريم والتحليل؛ وإنْ كان جُلُّها, أي كُلُّها تقريباً. في أمور وقضايا لا وزن لها بميزان المصالح الحقيقية، والحاجات الفعلية والأساسية، للمجتمع، أفراداً وجماعات، فَلِمَ يُحْجِمون عن «تحريم» كل ما يتنافى مع «الإكرام الحقيقي (والشرعي)» للميِّت، وهو «دفنه«؟! إنَّني لم أسمع، ولم أرَ، فقيها مُفْتياً لديه من الجرأة ما يكفي ليفتي قائلاً إنَّ «ثقافة الموت»، على ما نراها يومياً، في صحافتنا اليومية، أي في «الإعلان التجاري»، حجماً وموضوعاً، ليست من «الحلال» دينياً، بل هي «مُحرَّمة» شرعاً. أعلم أنَّ فتواه لن تنزل برداً وسلاماً على «أرباب العمل» في جرائدنا اليومية في العالم العربي، والذين يزنون «الجريدة»، أي «السلطة الرابعة» و«صانعة الرأي العام» و«مرآة الحقيقة».. افتراضاً وزعماً، بميزان يكاد أن يكون تجارياً صرفاً، ضاربين صفحاً عن «الحقيقة الإعلامية الكبرى» وهي أنَّ الصحافة يمكن ويجب أن تتضمَّن «التجارة»، لكنَّها يجب ألاَّ تَعْدِل أبداً «التجارة».
إنَّهم مع «الموت»، على أن يُحْسِن عزرائيل اختيار الأرواح التي يقبضها، أي أن تكون للأثرياء، فذوو هؤلاء هم وحدهم الذين في مقدورهم التسبُّب بازدهار الجريدة تجارياً من طريق زيادة مساهمة الموتى في «الإعلان التجاري».. إنَّهم يطلبون مزيداً من هذا الموت الذي يحيي العِظام من صحافتنا اليومية وهي رميم! »الجريدة» هي للأحياء وليست للأموات؛ إنَّها لمشتريها وقارئها، الذي من حقِّه أنْ يَجِدَ فيها ما يلبِّي احتياجاته الفكرية والثقافية في المقام الأوَّل؛ فهُنا، وهُنا فحسب، ينبغي للجريدة أنْ تقيس وزنها، وتكتشف ذاتها، وتختبر قواها الإعلامية والفكرية، وتؤدِّي رسالتها، فيقال، بعد ذلك، وبفضل ذلك، إنَّها جريدة كان لها مساهمة جيِّدة في «تفسير» العالم، وفي «تغييره»، من ثمَّ.
لقد عاثت فيها «الروح التجارية» فساداً، حتى اتَّخَذت من القول «الإعلان التجاري هو روح الجريدة» مبدأً لـ «فلسفتها الإعلامية«! و«كبار المُعْلنين التجاريين» ليسوا بتجَّار فحسب، فإنَّ لهم من النفوذ والتأثير في «البوصلة» السياسية والفكرية للجريدة ما يجعل الحرية الصحافية التي تتمتَّع بها الجريدة، وعلى ضآلتها سياسياً، تجري بما تشتهي مصالحهم، فهذا «الخبر»، أو ما شابه، يجب ألاَّ يُنْشَر؛ لأنَّ في نشره ما يُغْضِب مٌعْلِناً تجارياً كبيراً، فيَغْضَب (إعلانياً) على الجريدة! أُنْظُر إلى «التصنيف الطبقي» للجرائد عندنا، فماذا ترى وتكتشف؟ إنَّكَ ترى وتكتشف أنَّ الجريدة الأولى هي الأولى إعلانياً، والثانية هي الثانية إعلانياً، والثالثة هي الثالثة إعلانياً، فـ «حجم المبيعات»، بوصفه ثمرةً لـ «حجم الإعلان»، هو الميزان، والمقياس، والمسطرة.
احْجِبْ «الإعلان» فتحتجب الجريدة عن الصدور، وعن الوجود، وكأن لا مقوِّم آخر من مقوِّمات الحياة لديها! حتى «الأسماء» من «الإعلاميين»، ومن «رجال الفكر والقلم»، شُهْرتهم من شهرة جريدتهم، التي شُهْرتها من حجم الإعلان التجاري.