بيروت- صدر حديثا عن دار أنطوان، رواية «الخيمة البيضاء» للكاتبة الفلسطينية ليانة بدر، وفيها نتعرف على البطل عاصي، المناضل الذي جاب المنافي ثم عاد إلى «وطنه» ليحقق حلمه، وإذا به يكتشف أنه يعيش في عالم مغاير تماماً، بل إنه غير مرحب به في مدينة استقرت على حالها ورضيت بنصيبها، فينفس عن طاقته في المشي من دون توقف.
لكنه أيضاً قلق على ابنته بيسان، وهي الصوت الذي يمثل الجيل الجديد الذي يعيش في قطيعة كاملة مع جيل الآباء، ومع ذاكرة أرشيفية يعني فقدانها فقدان الحلم كاملاً. لكنّ بيسان تُصر على العيش في عالمها، عالم أغاني الراب التي تنتمي الى ثقافة دارجة وتعمد إلى قول ما تريده في شكل مباشر، عبر ايقاع ثابت، بلا مراوغة، وبلا مقدمات، كلمات تُصوب مباشرة نحو الهدف، وفقا لصحيفة «الحياة».
تسعى الشخصيات إلى كسر السجن النفسي للمدينة، كل بطريقته. فتحاول نشيد المساعدة في إنقاذ فتاة مختبئة في القدس من أهلها، ويحاول عاصي أن يستميل ابنته لتستمع إلى ماضيه، لكنّ الابنة المنغمسة في عالم الراب تتمكن فعلياً – عبر الفن – من كسر السجن رمزياً. هي على تواصل دائم مع صديقها وائل الذي لا يمكنه مغادرة غزة.
ثمة محاولات أخرى تبدو ظاهرياً وكأنها محاولات هروب من السجن. زوجة عاصي لا تتوقف يومياً عن الذهاب إلى القدس لزيارة والدتها، في محاولة حثيثة للحفاظ على أوراقها المقدسية. أما والد نشيد – المناضل المتقاعد – فاعتزل في مكان بعيد عن العمران خارج رام الله ويرفض الدخول في المنظومة التي جعلت من غزة وأريحا «دولة».
لكنّ السجن الذي تراجعه ليانة بدر لا يتعلق فقط بالاحتلال، بل ثمة سجن اجتماعي أيضاً، يتمثل في دونية وضع النساء. من المعروف على مدار التاريخ، أن وجود المُحتل أو المستعمر يدفع أصحاب الأرض إلى الحفاظ على الهوية. ولأن المرأة هي أول من يُشكل هذه الهوية ويرسمها، فإنّ النساء يدفعن ثمناً مضاعفاً. هكذا تُوجه نظرتها النقدية نحو الخارج (الاحتلال) ولا تُهمل الداخل في الوقت عينه.
تمهد قصة الفتاة المختبئة في القدس من أهلها الذين يرون أن زواجها من الرجل الذي أحبته عار، الطريق للكاتبة لتشتبك مع المفاهيم الاجتماعية، ولتدين جرائم القتل التي تدعي أنها تحافظ على الشرف. وفي أثناء هذا الاشتباك – الذي يحدث في شكل تلقائي لأن نشيد تخطط للذهاب إلى القدس – تستعيد ذاكرتها ما كانت تقوم به منذ زمن الانتفاضة مع النساء، وكذلك الشعارات النضالية والمبادئ والمفاهيم التي ذهبت مع الريح وفقدت معناها، في وسط المدينة التي تبدو كسجن أسمنتي يدور فيه البشر كالآلة الصدئة، المملة، المكررة.
مع تمكن ليانة بدر من طرح خطاب نسوي في وعي الشخصيات، وبخاصة نشيد، لا يفوتها أن تطرح مفهوم الذاكرة ولو ضمنياً. فكل شخصية إما تحمل ذاكرة من الماضي أو تقطع معه، وهي ذاكرة (سواء كانت مستمرة أو مجهضة) إنما تُعبر عن قصة شعب وُئدت أحلامه، فراح يوأد البنات. وكما انتشر عبث الاحتلال في القتل والاعتقال انتشر عبث المقاومة الشكلية التي يرتد رصاصها على أصحاب الأرض، وهو ما ظهر بشكل مكثف في ما فعله خالد وأصدقاؤه من اعتراض على قتل زميلهم، فكانت النتيجة أن طاشت رصاصاتهم لتقتل الصحافي الفلسطيني. كأن المقاومة تقتل صوتها وكأن آلة القتل الوحشية التي يديرها الاحتلال لا تكفي، وكأن ليانة بدر تكتب مرثية مُطولة من دون أن تعلن عن نيتها، فجاءت أسماء الفصائل والأحزاب حركية.
وكما يبدأ السرد باستعادة مشهد مداهمة جيش الاحتلال لمنزل نشيد من أجل تفتيش ذاكرة الكمبيوتر الخاص بخالد، ينتهي أيضاً باعتقال خالد واتهامـــه بمحاولة طعن جندي اسرائيلي على الحـــاجز. إنه عبث الحياة اليومية الذي يحوّل مصائر البشر في ثوان، وهــذا ما نقرأه حين اراد خالد أن ينقل الى أمه تحذير والدها من الذهاب إلى القدس. وإذا كانت الرواية تتناول يوماً واحداً، فكيف هي بقية الأيام؟
تنظر «الخيمة البيضاء» (التي تحتاج إلى بعض التحرير من أجل إزالة التكرار) إلى الداخل بعين الصقر وعياً منها أن زوال الاحتلال مقترن بقوة الداخل وتماسكه ووضوح رؤيته.
ترثي ليانة بدر كل الماضي باجتماعاته ونضاله ومنافيه وحروب المخيمات والبيانات، ترثي الرفاق وذاتها التي تجلت في نشيد وعاصي، وتتطلع إلى جيل جديد ليس من الأكيد أنه سيتبع خطى من سبقه.