”كزهر اللوز أو أبعد” .. ديوان يبين ان محمود درويش لم يعد شاعرالقصائد الطويلة، إلا فيماندر

تاريخ النشر: 04 سبتمبر 2005 - 10:11 GMT

منذ «سرير الغريبة» مروراً بـ«الجدارية» إلى «كزهر اللوز أو أبعد» ديوانه الأخير، يتخفف محمود درويش من ثقل اللغة، ليذهب الى شأنه الشخصي، متأخرا ربما بعض الوقت، كي يكتب ارتباكاته هو، لاارتباكات الآخرين.

 

لم يعد صاحب «لماذا تركت الحصان وحيدا» ملك البلاغة الجماعية وصناجة القضية. ‏

هو الآخر، كائن ارضي ودنيوي يرغب في أن يكتشف بلاغة الحياة العادية، بكل جناسهاوطباقها، فيزيح الستارة والتراب عن الاشياء النائمة، لتصير من اختصاص الشاعر. ‏

واللافت في «كزهر اللوز أو أبعد» (منشورات رياض الريس للكتب)، أن محمود درويش، لم يعد شاعرالقصائد الطويلة، إلا فيماندر؛ فها هويتأمل وحشته الشخصية، وهمومه الفردية في المسافة الفاصلة بين «المنفى» و«البيت»، ليتحول «البيت» الى منفى. ‏

هكذا تتكرر مفردات: البيت، والباب، كثيرا، ربما ليؤكد مرة اخرى أن «الطريق الى البيت، اجمل من البيت». ‏

محمود درويش الذي في الستين من عمره، هو غيرمحمود درويش ما قبل، هوالذي خبر الموت وغاص في ميثيولوجيا التراب والكروم، بعد ان نجا من «موت طائش». ‏

لدى محمود درويش من الاسباب ما يكفي لمراجعة لوز القصيدة، واجتراح بلاغة أخرى.. فـ«البلاغة تجرح المعنى وتمدح جرحه»، لكتابة شعر «لايدوّن بالحروف». ‏

هاهو يقول «إذا كان ماضيك تجربة،فاجعل الغد معنى ورؤيا». ‏

في قصائد محمود درويش، إشارات سريعة، تنتظر من يلتقطها، كعلامات على تلك المراجعة،وتلك التجربة: «لاتفتح الباب إلا لكي توصد الباب»، و«في البيت أجلس، لاحزينا ولاسعيدا/ لا أنا، أو لاأحد».. وها هو يدخل في نسيج قصيدته المتخففة من المعنى الشمولي، اشياء من قبيل «ترتيب المطبخ وغرفة النوم وطهو القهوة». فالزمان كما يشير «يغيّر العادات». ‏

ومن فضاء آخر، يدعو الى هجر الاستعارة، حين يكتشف أن الشخص العادي، ليس هو الشاعر: «هي لاتحبك انت/ يعجبها مجازك/ انت شاعرها وهذا كل ما في الامر، فكن ألفاً.. لتعجبها». ‏

سوف يقول البعض نريد محمود درويش الآخر، شاعر «ورد أقل»، و«مأساة النرجس، ملهاة الفضة، وربما يتمادى البعض الآخر ويطلب، جريا على عادة «مايطلبه المستعمون» في الاذاعة «سجّل أنا عربي».. لكن ما ينبغي ان نتذكره،رغبة الشاعر ذاته في كتابة ذاته، قصيدته المتخففة من ثقل الرنين والهتاف، وعبء الآخر، وفي هذا تكمن قوة محمود درويش وصلابته، حين أدار ظهره لأمجاد المنبر والتصفيق الجماعي، نحو شعرية اخرى، وذائقة اخرى،تتشكل على مهل مثل زهر اللوز ورائحته وبياضه: «دع الاستعارة، وامشِ الهويني» ففي مثل هذه العبارة يختزل محمود درويش أفق نظرته الشعرية، فاتحاً المسافة الى اقصى ضفافها من معلقة الشاعر الجاهلي الى منفى ادوارد سعيد. ‏

علينا إذاً، أن ندع الايقونة على جدار الآخرين، فهي لعنة الشاعر التمثال أو الشاعر الصنم، ولننظر الى محمود درويش الآخر، محمود درويش الذي في الستين، صاحب الحكمة المتأخرة في تأمل ماحوله، وما يخصه وحده، وهو بالضرورة، مايخص الآخرين الذين يشبهونه «لاختراق الجاذبية والكلام» نحو كرسي في المقهى، وكأس فارغ وجريدة،ومصاهرة الكناري وصوت الكمنجات، والإصغاء الى الجسد، ورائحة القمح والكستناء. ‏

كمقهى صغير هو الحب ‏

كمقهى صغير على شارع الغرباء ‏

هو الحب.. يفتح ابوابه للجميع. ‏

كمقهى يزيد وينقص وفق المناخ: ‏

إذا هطل المطر ازداد رواده

وإذا اعتدل الجو قلوا وملوا... ‏

انا ههنا ـ ياغريبة ـ في الركن أجلس ‏

غمالون عينيك؟ ما اسمك؟ كيف.. ‏

أناديك حين تمرين بي، وأنا جالس ‏

في انتظارك؟ف ‏

مقهى صغير هو الحب. أطلب كأسي ‏

نبيذ وأشرب نخبي ونخبك. أحمل ‏

قبعتين وشمسية. انها تمطر الآن. ‏

تمطر أكثر من أي يوم، ولاتدخلين. ‏

أقول لنفسي أخيراًً: لعل التي كنت ‏

أنتظر، انتظرتني.. اوانتظرت رجلا آخر ـ ‏

انتظرتنا ولم تتعرف عليّ وكانت تقول: ‏

أنا ههنا في انتظارك. ‏

غمالون عينيك؟ اي نبيذ تحب؟ وما اسمك؟ ‏

كيف أناديك حين تمر أماميف

كمقهى صغير هوالحب. ‏

من «كزهر اللوزأو أبعد»

 

الاشتراك

اشترك في النشرة الإخبارية للحصول على تحديثات حصرية ومحتوى محسّن