اقتصاد المقايضة: سكين لقطع الحصار أم لنحر الاكتفاء الذاتي السوري؟

تاريخ النشر: 02 يوليو 2012 - 12:25 GMT
مع اتساع رقعة السلع والمواد التي طالتها سكّين العقوبات المقايضة.. نحر للاكتفاء الذاتي بسكين الحكومة هذه المرّة!!
مع اتساع رقعة السلع والمواد التي طالتها سكّين العقوبات المقايضة.. نحر للاكتفاء الذاتي بسكين الحكومة هذه المرّة!!

مع اتساع دائرة السلع والمواد، التي وقعت تحت مظلة العقوبات الاقتصادية المفروضة على سورية، شهدت السوق السورية اختناقات حول بعض المواد مثل الغاز والبنزين، وبعض أنواع الأدوية، وأصبحت المستوردات السورية حبيسة مزاجية الشركات الأوروبية والغربية، وكمحاولة للتخفيف من تأثير حدّة العقوبات، وتأمين كافة السلع الأساسية التي قد يحتاج إليها المواطن السوري، وافقت الحكومة السابقة على مبدأ المقايضة، الذي وجد فيه بعضهم أفضل الخيارات المتاحة، وهو وسيلة مناسبة ومنقذة في الوقت الحالي، وعلى الطرف الآخر، يراه بعضهم متناقضاً تماماً مع ما جرى الحديث عنه من اكتفاء ذاتي، بمعنى أنّ هذه الموافقة مناسبة أكثر لتكشف زيف ما قيل ويقال عن الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستراتيجية.

مع اتساع رقعة السلع والمواد التي طالتها سكّين العقوبات المقايضة.. نحر للاكتفاء الذاتي بسكين الحكومة هذه المرّة!! أمام عقبات تمويل المستوردات وفتح اعتمادات لها في المصارف الأجنبية، ومع تهافت العقوبات الاقتصادية التي أحكمت الخناق، وسدت السبل أمام الصادرات السورية، لم يعد من السهولة في مثل هذا الزمان والمكان تصريف المنتجات السورية في الأسواق الخارجية كما في السابق، كما أنه بات من الصعوبة تأمين احتياجات القطر من السلع والمواد الاستهلاكية، لاسيما الأساسية منها، لتكون أفضل الخيارات المتاحة هي المقايضة، وإن أتت موافقة الحكومة على المقايضة مناسبة ومنقذة في الوقت الحالي كما يراها بعضهم، فإن بعضاً آخر يراها متناقضة تماماً مع ما جرى الحديث عنه من اكتفاء ذاتي، بمعنى أن هذه الموافقة مناسبة أكثر لتكشف زيف ما قيل ويقال عن الاكتفاء الذاتي من المحاصيل الاستيراتيجية، وإن كانت الحاجة إلى المقايضة فقط لتأمين ما لا ينتج محلياً، فإن الأمر لا يخلو من مخاوف على النفط المحلي من مقايضة تمت الموافقة فيها على مبادلة القمح الطري الأجنبي بالنفط السوري...

موافقة اختيارية ذكرت مصادر إعلامية أن الحكومة السابقة وافقت في أواخر شباط الماضي على مبدأ التعامل بالمقايضة في تبادل السلع والمواد الغذائية مع بعض الدول الأوروبية الصديقة التي أبدت استعدادها لذلك، وبحسب المصادر، فإن الحكومة وافقت على طلب إحدى الشركات الأوروبية التي طلبت مقايضة بعض السلع كالقمح الطري والشعير العلفي والرز مع القمح السوري القاسي والقطن الخام «دوكمة» والفوسفات.

وأشارت المصادر إلى أن الشركة السويسرية الإيرانية «بلاك هوك المحدودة» طالبت أيضاً بمقايضتها مع بعض السلع التي حددتها، بحيث شملت القمح الخبزي الطري والرز والسكر الأبيض المكرر، اليوريا، والشعير مقابل إعطائها النفط الخام السوري الخفيف.

وعن مدى إمكانية التطبيق في الوقت الحالي، يرى الخبير الاقتصادي مظهر حمدان يوسف في المقايضة حلا مناسباً أمام العقبات المتعددة في الاستيراد والتصدير والتي فرضها الحصار الاقتصادي من كل حدب وصوب، إلا أن تطبيقها يتعلق بقبول البلدان الأخرى التي يجري التعامل معها، ومدى حاجتها إلى المنتجات السورية، ويراها الحل الأنجح في هذه الظروف، مستشهدا بتجربة إيران التي فٌرضت عليها عقوبات اقتصادية لا تقل تأثيراً عن التي فرضت علينا، فإلى الآن النجاح حليف هذه التجربة.

وخلافاً لما يراه بهاء الدين حسن نائب رئيس غرفة تجارة دمشق من صعوبات في شحن ونقل البضائع من وإلى سورية، يؤكد الدكتور يوسف أن الصعوبات موجودة بالمقايضة ومن دونها ولن يترتب عليها أي تأثيرات سلبية مهما كانت جهة التصدير، إذ إن المقايضة بالمفهوم التجاري إبدال سلعة بسلعة، أي بدل العملة نأخذ بضاعة وبالتالي لن يتغير شيء، وفي النهاية الأمر اختياري وليست إجبارياً.

صعوبة في التطبيق وعلى عكس ما يراه المتفائلون بإمكانية المقايضة في الوقت الحالي، وضع نائب رئيس غرفة التجارة نصب أعيننا صعوبات جمة في التطبيق بدءاً من اتفاقية منطقة التجارة الحرة، إلى العقوبات الاقتصادية التي تضيق الخناق على حركة الاستيراد والتصدير، أضف إلى ذلك صعوبات في شحن ونقل البضائع من وإلى القطر.. وبالمختصر المفيد، ليس من السهولة في هذا الوقت ترتيب صفقة بهذا الشكل.

قبل صدور أي قرار اقتصادي يجب دراسته بحكمة وتأنٍّ وفقاً لاحتياجات السوق دون أن تكون له نتائج عكسية تجبر المعنيين به على التراجع عنه، فيؤثر سلباً على الحركة الاقتصادية، وعلى أصحاب الفعاليات بشكل عام، وفي ما يتعلق بموافقة الحكومة على المقايضة، يرى نائب رئيس غرفة التجارة أنه من الصعوبة في الوقت الحالي تطبيق مثل هذا الطرح، منوهاً إلى أهمية أن يكون اختيارياً في حال تم العمل به، ومشددا على وجوب فصل القرار السياسي عن الاقتصادي وألا تكون العلاقات التجارية مرهونة بدوام العلاقات السياسية مع هذا البلد أو ذاك حرصاً على استقرار العلاقات التجارية مع أكبر عدد من البلدان ودوام الأسواق التجارية فيها مفتوحة لمنتجاتنا المحلية. إذاً، لابد قبل البدء بالمقايضة من إمعان النظر في الظروف المحيطة، ومدى نجاعة هذه الفكرة وقابليتها للتطبيق، لاسيَما أن تجارب مماثلة سابقة في مجال تبادل الصفقات أثبتت فشلها الذريع، وتجربة الحكومة السابقة لمبادلة القمح السوري بأرز مصري منذ سنوات ماضية خير برهان، إذ إنها وفقاً لما أكده حسن لم تشكل أي حافز أو تشجيع للتجار مستوردين ومصدرين لمقايضة سلع بأخرى، مع العلم بأن هذه التجربة كانت متاحة اختيارياً للقطاع الخاص والعام. وبالرغم من ذلك لا يرى نائب رئيس غرفة التجارة أي مانع من تطبيق هذا الطرح، شرط أن يتم اعتماده اختيارياً؛ كأن تعطى الحرية للمستورد والمصدر بالاتفاق على مشروع صفقات متبادلة أو عدمه.

بدائية...

المقايضة كما يراها محمد الكشتو رئيس اتحاد غرف الزراعة أبسط المفاهيم الاقتصادية وأكثرها بدائية، ولكنها تكاد تكون أكثر النماذج رقياً وحضارة، وقد تم اقتراح المقايضة كمبدأ للتعاملات التجارية الاقتصادية منذ زمن من قبل اتحاد غرف الزراعة، إلا أنَ الموافقة على هذا الطرح أتت متأخرة ، لكن وبالرغم من ذلك، إلاَ أن الكشتو يرى أننا في أمس الحاجة إليها اليوم، فمن خلال المقايضة نستطيع ترشيد الاستهلاك إلى حدوده الدنيا، وبدل أن نتحول إلى بلد مستورد بالكامل، نتقدم خطوات في طريق الإنتاج الزراعي والصناعي، والتعاملات التجارية على السواء عبر مقايضة ما نحتاج إليه فقط، وذلك يتم من خلال دراسة متوازنة للصادرات والواردات، فتنحصر الواردات بما يلبي الاحتياجات المحلية فقط، والصادرات بحيث تكون الفائض عن الاستهلاك المحلي وتهدف إلى فتح أسواق جديدة عبر علاقات تجارية واسعة.

تصلح للمقايضة أكد معاون مدير التسويق اكتفاء القطر من المنتجات الزراعية وعدم وجود أي حاجة للاستيراد ماعدا المنتجات التي لا تصلح للزراعة محلياً، مبيناً أن الحمضيات وزيت الزيتون والأغنام والقطن والتفاح تأتي في قائمة المنتجات الزراعية التي تحقق كفاية للقطر وفائضاً للتصدير؛ فهي متاحة للمقايضة، يليها البذور الطبية من (الكمون، واليانسون). وهذه المنتجات يمكن مبادلتها بما يتم استيراده من الرز، وجزء كبير من السكر ويشكل 70 % من استهلاك القطر، إضافة إلى ما نستورده من البن، والشاي، والسمك، ومستلزمات الإنتاج الزراعي مثل الأعلاف. وأشار جبر إلى كفاية القطر من الخضار والفواكه بأصنافها المختلفة، وما يدخل القطر عبر الاستيراد ليس بدافع الحاجة وإنما هو تحقيق لاتفاقيات تجارية تربطنا مع الدول الأخرى.

الاستراتيجي.. خط أحمر في الوقت الذي أثنى فيه رئيس اتحاد غرف الزراعة على أهمية المقايضة كمفهوم اقتصادي يفتح الأسواق أمام المنتجات المحلية، لاسيَما في هذه الفترة، فضّل عدم الحديث عن الاحتياطي الاستراتيجي من قمح وقطن وشوندر سكري كسلع تصلح للمقايضة، إذ تبقى مخزوناً استراتيجياً يجب عدم المغامرة به.

وفي ذات الإطار، أكد خبير زراعي أن القمح القاسي مطلوب عالمياً وله استخدامات أخرى غير الخبز، مشدداً على ما قاله الكشتو من حيث عدم المغامرة به للمقايضة حتى ولو كان بالقمح الطري، إذ مع مقارنته به فإن الأخير سعره أرخص من القمح القاسي واستخداماته أقل.

وفي حديثه عن أهمية الحفاظ على المحاصيل الاستراتيجية واستثنائها من عملية المقايضة في حال تم العمل بها، أشار الكشتو إلى أهمية الاستفادة من القيمة المضافة الكاملة للقطن، فبدل أن نصدره غزولاً نصدره ألبسة جاهزة.

90 % من منتجاتنا الزراعية مقابل الاحتفاظ بالمحاصيل الاستراتيجية الثلاثة كأمن زراعي مهم للبلد، هناك ما يشكل 90 % من منتجاتنا الزراعية الأخرى تصلح مقايضتها بأخرى لا تزرع محلياً، وتأكيداً على ما قاله معاون مدير التسويق في وزارة الزراعة، أفاد الكشتو أن الحمضيات تأتي على رأس القائمة؛ إذ لدينا فائض عن الاستهلاك المحلي  يقدر بـ 400 ألف طن، يليها زيت الزيتون ويزيد الفائض منه على 100 ألف طن، وكميات لابأس بها من البقوليات (عدس، حمص، فول)، أضف إلى ذلك البيض ويصل الفائض إلى 1.5 مليار بيضة، يمكن الاستفادة منه في المقايضة بسلع أخرى مثل الأعلاف والأسمدة والأدوية وغيرها من معدات ومستلزمات الإنتاج الزراعي.

لا خوف على الأسعار لا خوف على أسعار المنتجات المحلية المعتمدة للمقايضة طالما أن الصادرات منها هي فائض الإنتاج، وتخرج بعد أن يتم التأكد من كفاية الاستهلاك المحلي لهذا المحصول أو ذاك، هذا ما أوضحه الكشتو، منوهاً إلى أن ذلك يتطلب جهوداً مشتركة من التجار ورجال الأعمال والالتزام بعدم تصدير مادة غير موجودة في السوق.

وبين الكشتو أن هناك فرقاً بين مادة يرتفع سعرها وهي مفقودة ويتم تصديرها، وبين أخرى يرتفع سعرها وهي متوافرة في الأسواق، وهنا يجب البحث عن السبب الرئيس ومعالجته أولاً، إذ إن ارتفاع سعر المادة المحلية لا يعني بالضرورة إيقاف تصديرها، فالمشكلة قد تكون لأسباب وعوامل أخرى لا دخل لها بالتصدير كارتفاع التكاليف، وزيادة الطلب على هذه المادة أو تلك، أضف إلى ذلك أن إيقاف تصدير الفائض من مادة ما يعني خسارة أسواق خارجية نحن في أمس الحاجة إليها لتصريف منتجاتنا، ومن شأن ذلك أن يؤدي إلى خروج منتجين محليين من سوق العمل، وما إلى ذلك من خطورة في تراجع الإنتاج من جهة، وفقدان الكثير من فرص العمل من جهة أخرى.

مسؤولية الدولة المقايضة كمفهوم لتبادل السلع والمنتجات، تسمح به الدولة وتهيئ البيئة المناسبة له، فتترك المجال مفتوحاً أمام المؤسسات ذات الطابع الاقتصادي، وأمام القطاع الخاص المصدر والمستورد، بمعنى أن مسؤولية الدولة حسب ما أوضحه معاوية جبر معاون مدير التسويق في وزارة الزراعة تنحصر في خلق البيئة المناسبة لتسويق منظم ومتطور من خلال القوانين والأنظمة، فتحدد المتاح والفائض من المنتجات للتصدير، والمنتجات التي يحتاج إليها القطر للمقايضة بها، موضحاً: «الدولة كمؤسسات لا تبيع ولا تشتري إلا عبر مؤسسة واحدة هي الخزن والتسويق، أي أنَ المقايضة كفعل تقوم به المؤسسات العامة الاقتصادية بما تملكه من محاصيل استراتيجية فقط، وباقي المنتجات تتم مقايضتها عبر القطاع الخاص من شركات مستوردة ومصدرة».

مسؤولية الدولة تلتقي آراء العديد من المعنيين حول ارتياح أمام موافقة الحكومة السابقة على مبدأ التعامل بالمقايضة، وتكثر مقابل ذلك مخاوف المراقبين والمحللين في الاقتصاد من مخاطر هذه الموافقة في الوقت الحالي، لاسيما إذا ما قورنت بتجارب مماثلة انتهت بالفشل، كتجربة العراق التي حصلت، تحت اسم «برنامج الغذاء مقابل النفط» المطبق بين عامي 1996 و2003 للتخفيف عن الشعب العراقي الذي رزح تحت الحظر الدولي والذي سمح لبغداد ببيع النفط لقاء شراء مواد غذائية وأدوية. لكن وإن تشابهت الظروف إلى حد ما، فإن التجربتين مختلفتان، أي أن المخاوف لن تخرج إلى حيز الخطر، فتهدد احتياطي النفط ومخزون البلاد كما يظن بعضهم، إذ إن البرنامج سابق الذكر كان تحت رعاية دولية في العراق، ووفق قرار صادر عن مجلس الأمن الدولي، فضلا عن أنه كان يسمح بتصدير جزء محدد من نفط العراق، والحصول على الغذاء بشكل غير مباشر عبر شرائه من عائدات بيع النفط، وأما لدينا في سورية فالمقايضة تبدو مباشرة، حيث تقدم سورية النفط لهذه الشركات مقابل حصولها على سلع غذائية محددة، وعبر التعامل مع شركات خاصة.

وفي هذا الصدد يؤكد الخبير الاقتصادي يوسف أن لامخاوف من ذلك أبداً، خاصة وأن المقايضة في سورية تختلف تماماً عما جرى في العراق، حيث كانت تتم بين ثلاثة أطراف القوة فيها لمصلحة الطرف الثالث (الأمم المتحدة) والتي بقيت صفقات الفساد تلاحق أشخاصها حتى تاريخ قريب، فهي ليست طرفا نزيهاً كما يتخيل بعضنا. أما في سورية فإن الوضع مختلف؛ فالدولة قائمة والأمم المتحدة بالتأكيد لن تشرف على صفقات المبادلة، وإنما ستتم بين طرفين لا ثالث لهما: داخلي من القطر، وخارجي من الدولة التي توافق على التعامل بالمقايضة، ولا عقبة أمام نجاح هذه الفكرة إلا موافقة الدول الأخرى... ولاخوف من فساد إلا فساد الداخل.