لا توفر الصين مكاناً في العالم إلا وتسعى للحضور فيه بقوة سواء عبر بضائعها او علاقاتها الديبلوماسية او استثماراتها. ولا تشذ مصر ما بعد الثورة عن هذه القاعدة. فبعد سقوط نظام حسني مبارك، وتراجع كلمة الامريكيين على النظام المصري، ورفع الرئيس المصري الجديد محمد مرسي لراية الاستقلالية السياسية لا سيما فيما خص السياسة الخارجية، تجد الصين اليوم منفذا لها على مصر لذلك فهي تعمل جاهدة للتقرب منها وتوطيد العلاقات أكثر من أي وقت مضى.
ومما لا شك فيه ان هذه الخطوات الصينية تثير غضب الامريكيين واستياءهم كونهم مدركين ان اسهمهم السياسية في بلاد الفراعنة قد تراجعت الى حد كبير. وبلغة الأرقام، وهي اللغة التي تفضلها الصين، أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز بيو للأبحاث في شهر نوفمبر عام 2010، أن 52 في المائة من المصريين يملكون نظرة إيجابية إلى الصين، في حين أن 17 في المائة منهم فقط كونوا آراء إيجابية عن الولايات المتحدة. ولا تحتاج بكين الى دلائل اضافية لكي تدرك ان تحركها صوب مصر يحتاج الى التسريع.
«أورينت برس» أعدت التقرير التالي:
وجدت الولايات المتحدة نفسها فجأة في موقف اصطدم فيه نفوذها في مصر، حليفتها الكبرى في الشرق الأوسط، بمنافسة قوية من قبل الصين التي تسعى الى منافستها في كل مكان في العالم على ما يبدو. فمن الواضح ان الرئيس المصري المنتخب حديثاً، محمد مرسي، يسعى على إعادة رسم مسار بلاده في الداخل والخارج، فاختار بكين لتكون وجهة زيارته الرسمية الأولى خارج منطقة الشرق الأوسط وإفريقيا وهي دلالة تعني الكثير للصين. فسافر مع مجموعة كبيرة من رجال الأعمال، وحصل على دعم سياسي ومالي غير مسبوق من الزعيم الصيني، هو جنتاو، شمل استثمارات واسعة النطاق في مجال البنى التحتية التي تحتاجها مصر بشدة. تنافس صيني أمريكي عقب هذه الزيارة الرفيعة المستوى التي دامت ثلاثة أيام، كثفت إدارة الرئيس الامريكي باراك أوباما الجهود لتخفف من ثقل الديون التي ترزح تحتها مصر، مقدمةً الدعم الكامل لقرض من صندوق النقد الدولي قيمته 4,8 مليارات دولار. فبينما يعمل الرئيس مرسي على إعادة تشكيل سياسة مصر الخارجية، محاولاً حسبما ذكر مستشاروه تحقيق التوازن والتقرب من خصوم الولايات المتحدة الذين ابتعدوا عن مصر بسبب سطوة الأمريكيين على النظام السابق في مصر، يسعى الرئيس مرسي جاهداً لتنشيط اقتصاد مصر المتعثر، الذي أخفق في النهوض بعد ما عاناه من ركود عقب الانتفاضة، لذلك فهو توجه أولا إلى بكين العاصمة الصينية التي تتمتع بزخم اقتصادي قوي يمكنها من خلاله مساعدة مصر على النهوض مجددا.
وضع مميز
تبدو الصين اليوم في وضع مميز يتيح لها سلب الولايات المتحدة دورها كمساعد مصر الأبرز، فبحسب العديد من المحللين السياسيين في مصر «ستتوطد علاقاتنا مع الصين لأن حكومتنا الجديدة تنظر بعين الريبة إلى الغرب». فقد دعمت الولايات المتحدة علانية طوال ثلاثين سنة نظام الرئيس حسني مبارك، الذي اضطهد لعقود أعضاء جماعة الإخوان المسلمين ومن بينهم مرسي. وفي شهر نوفمبر عام 2010، أظهر استطلاع للرأي أجراه مركز «بيو» للأبحاث أن 52 في المائة من المصريين يملكون نظرة إيجابية إلى الصين، في حين أن 17 في المائة منهم ينظرون بإيجابية الى الولايات المتحدة.
لن تتأثر الصين بعدم الاستقرار السياسي ولا تكترث بحقوق الإنسان، بخلاف الولايات المتحدة التي لاتزال تملك بعض التحفظات حيال حكومة مرسي. فضلاً عن ذلك، تملك الصين المال والنفوذ والرغبة والسلاح لتتحدى النفوذ الأمريكي في مصر. وهنا لابد من الاشارة الى المبالغ الضخمة التي تنفقها الصين في مجال التجارة والاستثمار في القارة الإفريقية، لذلك تتطلع مصر إلى الصين كقوة كبرى لا في آسيا فحسب، بل في إفريقيا أيضاً، ولا شك أن هذه العلاقة سترغم الولايات المتحدة على التركيز بدقة أكبر على ما يدور في مصر. مازالت الولايات المتحدة أكبر واهب لمصر، بما أن مساعداتها الاقتصادية والعسكرية تفوق الـ1,3 مليار دولار، لكن الصين، التي طالما وقفت على الحياد في الشرق الأوسط، بدأت تتغلغل اليوم في القطاعين الاقتصادي والأمني بسرعة كبيرة.
استثمارات صينية
وبالإضافة إلى توقيع عقود لبناء محطة طاقة، ومحطة لتحلية مياه البحر، وقطار سريع بين القاهرة والإسكندرية، ثاني أكبر المدن المصرية، سبق للصين أن قامت باستثمارات في مصر وصلت قيمتها إلى نحو 500 مليون دولار. نُفّذت هذه الاستثمارات خلال عهد مبارك، الذي مدّ جسور التعاون التجاري مع الصين، إلا أنه أبقى علاقاته بها ضمن حدها الأدنى بسبب الرعاية المالية والعسكرية الأمريكية. عندما أخافت الثورة الشعبية المصرية عام 2011 وما تلاها من اضطرابات سياسية المستثمرين الآخرين، تمسكت الشركات الصينية بعملها في مصر، مستثمرة في السلع الجيدة الثمن، مثل الثياب والأجهزة الإلكترونية الرخيصة. بما أن مصر تعدادها 85 مليون نسمة، فإنها تعتبر سوقاً استهلاكية مربحة للسلع الصينية الجيدة الثمن. وفي عام 2011، بلغت قيمة صادرات السلع الصينية إلى مصر 7,28 مليارات دولار، متفوقة على الصادرات الأمريكية التي سجلت 6,18 مليارات دولار، وفق البيانات التجارية للأمم المتحدة. في هذا الإطار، يوضح خبراء اقتصاديون ان الاستثمار الصيني في حاجات الاستهلاك هو الأمر الوحيد الذي حافظ على ثباته طوال الثورة وبعدها. بينما يناضل الاقتصاد الأمريكي للتعافي وتواجه أوروبا (شريك مصر التجاري الأول) أزمة اقتصادية، تملك الصين الكثير من الأموال النقدية وتتمتع بقطاع صادرات راسخ. في المقابل، تفتقر مصر إلى موارد الطاقة الواسعة التي حفزت الاستثمار الصيني الهائل في دول أخرى من القارة الإفريقية، خصوصاً ليبيا وأنغولا، لكن المحللين يقولون إن مصر تمنح الصين، بالإضافة إلى سوقها الاستهلاكية المربحة، قدرة على ولوج دول مجاورة ونفوذاً فيها.
التوازن الصيني المطلوب
لا شك أن الصين ستجني من مساهماتها الأخيرة في اقتصاد مصر، التي تقع في قلب العالم العربي، نوايا سياسية حسنة في هذه المنطقة، حيث بدأ دعم الصين يتراجع نتيجة تأييدها الرئيس السوري بشار الأسد. علاوة على ذلك، تستطيع الصين استخدام قناة السويس المصرية لتبحر بسفنها الحربية إلى البحر الأبيض المتوسط والبحر الأسود، حيث تملك أيضاً استثمارات، متحدية المعاملة المميزة والسريعة التي تلقاها السفن الحربية الأمريكية اليوم عندما تعبر القناة.
وتكشف دراسة أعدتها جامعة العلوم والتكنولوجيا في النرويج أن الصين باعت لمصر أسلحة فاقت ما أعطته للسودان وزيمبابوي معاً، ما يجعل مصر أكبر سوق للأسلحة الصينية في إفريقيا. تشير هذه الدراسة أيضاً إلى أن المساعدة العسكرية الأمريكية لمصر تتيح للحكومة المصرية استخدام المال الخاص من موازنتها لشراء أسلحة صينية إضافية. ويعبر بعض المحللين عن قلقهم من أن الوجود الصيني المتنامي في مصر، مع تراجع ولاء حكومة مرسي للولايات المتحدة، قد يمنح الصين القدرة على الاطلاع على التكنولوجيا العسكرية الأمريكية. وقد ورد في برقية دبلوماسية أمريكية عام 2009 سربها موقع «ويكيليكس» أن المسؤولين الأمريكيين كانوا آنذاك قلقين بشأن انتهاكات مصر لقانون ضبط تصدير الأسلحة. وذكروا أن مصر «تخطت بانتهاكاتها هذه أي بلد حول العالم». كذلك جاء في هذه البرقية أن مسؤولاً عسكرياً صينياً زار عام 2009 قاعدة جوية مصرية تضم طائرات حربية من طراز إف-16 قدمتها الولايات المتحدة للدولة المصرية. لذا، وبرأي الخبراء، فإنه لا شك أن الوجه العسكري الصيني مع مصر قوي. فتعتبر مصر مفتاح أي دولة تريد شق طريقها إلى القارة الإفريقية أو الشرق الأوسط أو أوروبا. ويمكن لدولة مثل الصين أن تعتمد على دولة مثل مصر الى حد كبير ومتسع.