في غمرة انشغال العالم بانخفاض أسعار النفط، إثر تعثر اجتماع الدول المنتجة للبترول في الدوحة بالتوافق على تجميد الإنتاج، فإن الأضواء لم توجه بشكل كاف للاجتماع الذي سيعقد في العاصمة البلجيكية بروكسل لمناقشة التخمة الراهنة في الأسواق العالمية للحديد، والذي دفع صناعة الحديد في بريطانيا إلى أن تقف الآن على حافة الانهيار.
ففي الوقت الذي تراجع فيه معدل الاستهلاك العالمي للحديد خلال العام الماضي بنحو 5 في المائة، حافظت الصين على مكانتها كأكبر منتج ومستهلك للمعدن. وبلغ إنتاجها من الحديد الخام العام الماضي 893 مليون طن ما يعادل نصف الإنتاج العالمي، وقامت بتصدير 112 مليون طن، وأسهمت الطفرة العقارية في الصين في ارتفاع معدل الاستهلاك الداخلي لمعدلات غير مسبوقة، ففي عام 2014 استهلكت بكين ستة أضعاف استهلاك الولايات المتحدة التي احتلت المركز الثاني عالميا، ومع تراجع معدل النمو الصيني وتباطؤ الطفرة العقارية في الصين، انخفضت أسعار الحديد إلى أدنى مستوى لها في عشرة أعوام.
وإذ تحتل سبل السيطرة على الزيادة المفرطة لإنتاج الحديد الجانب الأكبر من مباحثات بروكسل التي شارك فيها أمس 30 وزيرا، فإن الأمر يحتل بالنسبة لبريطانيا أهمية خاصة تتضمن إلى جانب الاقتصاد، جانبا آخر معنويا بشكل ملحوظ.
فالنهضة البريطانية قامت على عنصرين أساسيين هما الفحم والحديد، وكانت سياسات رئيسة الوزراء البريطانية مارجريت تاتشر في الثمانينيات قد أسفرت عن إغلاق مناجم الفحم البريطانية، لأنها لم تعد مربحة، بينما ظلت صناعة الحديد تحتل موقعا مهما في الهيكل الاقتصادي البريطاني، لتعتبر آخر ما تبقى من ذكريات عصر هيمنة الجزيرة البريطانية على الاقتصاد العالمي.
وأبرز المناقشات التي سيشهده الاجتماع ستدور بين وزير الأعمال البريطاني ساجد جويد ونظيريه الصيني والهندي. فلندن تحمّل بكين ونيودلهي وتحديدا بكين مسؤولية اقتراب صناعة الحديد البريطانية من حافة الانهيار. فمجموعة تاتا الهندية التي تهيمن على الجزء الأكبر لصناعة الحديد في المملكة المتحدة، أعلنت في شهر آذار (مارس) الماضي أنها ستعرض مصانع الحديد التابعة لها في مقاطعة ويلز البريطانية للبيع، بعد أن أدى "إغراق" الصين لأسواق الحديد في العالم بكميات هائلة وبأسعار رخيصة إلى تعرض قطاع الحديد في لندن إلى خسارة قدرت بمليون جنيه استرليني يوميا.
وقال ستانلي بيل المحلل المالي في بورصة لندن لـ "الاقتصادية": عرض مجموعة تاتا بيع مصنع الحديد التابع لها في جنوب ويلز يعني باختصار إنهاء خدمات آلاف العمال، وتحديدا نحو 40 ألف عامل بريطاني، ولن يتوقف الأمر على ذلك بل ستتضرر العديد من الصناعات والخدمات المرتبطة بصناعة الحديد البريطانية، ونظرا لأهمية صناعة الحديد في بريطانيا فإن الحكومة تعرضت لضغوط ضخمة للسيطرة على الصناعة وتأميمها، في إطار مشروع استثماري مشترك بين الحكومة والقطاع الخاص".
وكان رئيس الوزراء البريطاني قد تعرض لهجوم حاد وانتقادات واسعة النطاق بشأن سوء إدارته لأزمة الحديد في بريطانيا، ما دفعه إلى عقد اجتماع طارئ لأعضاء حكومته لمناقشة الوضع خاصة بعد أن اتهمت مجموعة تاتا الحكومة البريطانية بأن سياستها في مجال الحديد، أفقدت القدرة الإنتاجية البريطانية المقدرة على منافسة نظرائها من المنتجين في الاتحاد الأوروبي والصين.
وكشف لـ "الاقتصادية" روبرت بايكن نائب المدير العام لمجموعة المعادن الدولية أن السياسة الضريبية البريطانية كانت العامل الأساسي وراء الوضع المزري الذي بلغته صناعة الحديد في المملكة المتحدة، بعد أن كانت حجر الزاوية للنهضة الاقتصادية البريطانية، يضاف إلى ذلك أن الحكومة لم تقرأ جيدا التحديات الدولية التي تواجهها الصناعة خاصة من الصين وانخفاض تكلفة الإنتاج لديها، ولم يحتل كاميرون أو وزراؤه مقعد القيادة خلال الأزمة، بل كان سلوكهم رد فعل دائم على الهجوم الصيني".
وحتى الآن تواصل الحكومة البريطانية رفضها لفكرة تأميم مصانع تاتا لإنتاج الحديد، وتعتقد أنه لا يزال أمامها فرصة لإجراء حوار مع المسؤولين في المجموعة الهندية حول رؤيتهم للخروج من الوضع الراهن، وطرح خطة محددة المعالم للنهوض بالصناعة مجددا. وقد تعهد رئيس الوزراء البريطاني بأن يناقش الموضوع مع رئيس الوزراء الهندي ناريندر مودي خلال لقائهما المرتقب في واشنطن، على أمل أن ينجح كاميرون في إقناعه بأن يمارس ضغطا على مجموعة تاتا لمنح لندن فرصة أخيرة لاتخاذ خطوات جادة لإصلاح الوضع.
على الجانب الآخر أدت الاتهامات المتبادلة بين بكين ولندن، بشأن تحميل كل طرف المسؤولية للطرف الآخر فيما يتعلق بالتخمة الراهنة في سوق الحديد العالمي، إلى أن تفقد سياسة التقارب الاقتصادي والتجاري بين البلدين والمعروفة باسم "العهد الذهبي" جزءا ملموسا من بريقها. فالاتهامات المتبادلة بين لندن وبكين بشأن صناعة الحديد وصلت إلى أعلى المستويات في البلدين، خاصة أن ما يعتبره البعض إفراطا صينيا ملحوظا في الإنتاج لم يصب فقط صناعة الحديد البريطانية بالخسارة، وإنما طال أيضا الصناعة الأوروبية.
وحمّل قادة الاتحاد الأوروبي بريطانيا المسؤولية وذلك لرفضها الدائم لأن يقوم الاتحاد بتشديد القوانين لمواجهة ما يعتبره البعض هجمة صينية للتخلص من فائض إنتاج الحديد لديها، وأسفرت عرقلة ممثلي المملكة المتحدة في الاتحاد الأوروبي لفرض المزيد من القيود على تجارة الحديد مع الصين، استغلال بكين الوضع وإغراق السوق الأوروبية بفائض إنتاجها من الحديد وبأسعار زهيدة، ما انعكس على قدرة بريطانيا وبلدان الاتحاد على مواجهة التنين الصيني.
وقالت ايف ايل اند أستاذة التجارة الدولية في جامعة ليدز قائلة: "قصة بريطانيا والحديد لم تنته بعد. فالإنتاجية المحلية تضاعفت خلال العقدين الماضيين، ولكن المشكلة أن الصين أغرقت السوق العالمية بحديد زهيد السعر، وهذا لا يعود بالضرورة إلى انخفاض تكلفة الإنتاج كما تروج الحكومة الصينية، وإنما الدعم الذي تقدمة السلطات لصناعة الحديد، وهذا يدخل ضمن مفهوم الإغراق، الجانب الآخر أن الحكومة البريطانية والعديد من حكومات العالم لم تقم ببناء حائط صد أمام الهجمة الصينية، والأزمة لا تتعلق بالمملكة المتحدة بمفردها، وإنما هي أزمة عالمية نتيجة تخمة المعروض، ولهذا نجد تنسيقا عالي المستوى بين بريطانيا والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي وأسترالي للضغط على الصين لتعديل سياستها، وهو ما سيظهر خلال اجتماع بروكسل".
مع هذا يعتقد البعض أن تلك الضغوط لن تسفر عن تحقيق الكثير من النتائج فإنتاج الصين من الحديد نما بمعدلات سريعة، وبما يقدر بضعف إنتاج الاتحاد الأوروبي. في الوقت ذاته تراجع معدل النمو الداخلي في الصين، ولن يكون أمام السلطات من سبيل للخلاص من إنتاجها غير التصدير للخارج، خاصة أن منتجي الحديد في الصين يتعرضون للخسارة مثل نظرائهم الأوروبيين، لكن الفرق أن حكومة بكين تواصل دعمهم.
وأسفرت الضغوط الدولية على بكين لخفض حدة الإفراط في الإنتاج إلى احتمال تسريح نحو نصف مليون عامل في هذا القطاع، وتصاعدت الاتهامات الدولية لها بأنها تقوم بعملية إغراق دولي جراء الدعم الذي تقدمة للصناعة سواء عبر توفير الوقود بأسعار منخفضة أو عبر فرض رسوم عالية تبلغ 20 في المائة على بعض أنواع الحديد المصنع الذي تقوم باستيراده.
وبالنسبة لبلدان مجلس التعاون الخليجي فإن الإمارات تعد الأكثر طلبا على الحديد بين بلدان المجلس، بصفة عامة، حيث يتصف الطلب الخليجي بالارتفاع من جراء الطفرة العمرانية والإنشاءات الضخمة سواء المرتبطة بمعرض إكسبو في دبي 2020 أو كأس العالم المزمع عقده في الدوحة عام 2020، ويتوقع أن ينمو استهلاك الإمارات من الحديد بنحو 8 في المائة خلال الفترة من 2016 - 2020.
اقرأ أيضاً:
أسعار حديد التسليح العالمية تهوي 23 % خلال 4 أشهر
السعودية تخفض سعر حديد التسليح 200 ريال للطن
