''لا يمكنني توفير المال بطرق حقيرة'' وليام شكسبير أديب إنجليزي كما أنه لا يعترف بوجود ثورة شعبية عارمة ضده وضد نظام سحق سورية وشعبها لمدة تزيد على أربعين عامًا، كذلك لا يعترف بشار الأسد سفاح هذا البلد المسحوق، بوجود أزمة اقتصادية مالية هائلة حالكة متداعية فظيعة في حاضرها ومستقبلها، تنشر الخراب في كل مكان. وإذا قرر التنازل والاعتراف بوجود شيء من هذا القبيل، فالسبب الوحيد يعود إلى تلك العقوبات المفروضة عليه، ولا دخل هنا للنهب التاريخي والسرقة المنظمة والاختلاس الاستراتيجي لأموال ومقدرات الشعب السوري، بما في ذلك المساعدات، بل حتى القروض التي اقتُنصت باسم هذا الشعب. ولأن المال يُكلف كثيرًا في الحالة العامة العادية، علينا أن نترك لأفكارنا ومخيلاتنا، تقدير هول تكاليفه في الحالة التخريبية الممنهجة والمستدامة.
وفي سورية.. المال كما الحرية، فكلاهما منهوب مسروق مملوك لنظام وحشي التكوين، وهمجي المعايير، وطائفي الأدوات. عندما أعلنت عصابة الأسد الاقتصادية ''مضطرة'' عن طرح أوراق نقدية جديدة للتداول، تمت طباعتها بلا أدنى غرابة في روسيا.. كانت في الواقع تعلن عن موجة جديدة من هذه الأوراق. فهذا النوع من النقود التي لا تحمل قيمة سوى سعر الأوراق التي طُبعت عليها، أغرقت سورية على شكل موجات انطلقت منذ أوائل ثمانينيات القرن الماضي، ولن تنتهي حتى ينتهي نظام الأسد إلى الأبد؛ لأن ذلك جزء أصيل من اقتصاد الخراب. أما لماذا ''أعلنت مضطرة''؛ فلأن هذه الأوراق النقدية من الليرة السورية، ليست للتخزين بل للتداول، وبالتالي لا يمكن طرحها تمريرًا ولا تسريبًا. والحقيقة أن هذا النظام القاتل، أقدم بالفعل في الشهر التاسع للثورة الشعبية العارمة التي تجتاح سورية، على طباعة كميات كبيرة من أوراق النقد محليًّا، لكنه فوجىء بأن جودتها الطباعية (لا قيمتها الحقيقية) لم تكن بالمستوى الذي يمكن أن يساعد على تسويق عملة تُطرح بلا سند أو رصيد أو غطاء اقتصادي مالي ما. لكن مهما ارتفع مستوى فخامة الطباعة وجودتها، تبقى الأوراق الجديدة المطروحة مجرد أوراق ملونة، وأفضل ما فيها أنها لا تحتوي على صورة لسفاح سورية الأول حافظ الأسد (ولا الثاني والأخير بشار الأسد) كما هو حال ورقة الألف ليرة المنحوسة بصورته، والمتراجعة بسرعة ''أولمبية'' في قيمتها. ولأن الأسد يكذب انطلاقًا من ''مفهوم'' استراتيجي خاص (بل شخصي) لا مثيل له في التاريخ الحديث، فقد حاول ترويج الأوراق النقدية الجديدة، على أنها مطروحة كبديل لتلك القديمة المتهالكة. لكن الأمر ليس كذلك، ولن يكون. فقد وصل الاقتصاد السوري (هذا إن استحق التوصيف الوطني) إلى منتصف الطريق الذي وصل إليه اقتصاد زيمبابوي (مثلًا)، ويسير بسرعة فائقة ونادرة نحو الهلاك. والعملية برمتها تهدف إلى دفع رواتب العاملين في القطاع العام، وتسديد النفقات الحكومية المختلفة. لماذا؟ لأن الأسد (وعصاباته) أفرغوا مبكرًا خزائن البنك المركزي، في سياق إفراغ البلاد من كل مقدراتها. ومع ذلك، هناك أسباب أخرى للجوء الأسد إلى طباعة عملة بلا رصيد. في مقدمتها طبعًا، شح السيولة الخاصة بالإيرادات التي يتم تحصيلها عن طريق الخدمات والرسوم الحكومية والضرائب. ففي غضون العام الأول من الثورة الشعبية، تراجعت هذه الإيرادات بنسبة 50 في المائة، وهي مستمرة في التراجع بأشكال مختلفة.
يضاف إلى ذلك التوقف التام للاستثمارات الأجنبية في سورية، وشلل حركة الإنتاج بشكل عام، فضلًا عن توقف شبه تام للحراك السياحي في البلاد. سيواصل سفاح سورية طباعة المزيد من الأوراق النقدية بلا سند أو رصيد. وهو بذلك يسرق مستقبل البلاد، في إطار سرقته لماضيها وحاضرها. فقد أقدم قبل أربعة أشهر تقريبًا على طرح سندات خزينة للبيع، ويقوم حاليًا باستكمال عمليات بيع ثروة سورية من الذهب في دول يسيطر عليها قطاع طرق، لا مسؤولين اقتصاديين. والأوراق النقدية الجديدة لا توفر إلا الهموم والمصائب، في بلد يكتوي شعبه بفظائع يومية، باتت مقابلها مثيلاتها السابقة في التاريخ الحديث مجرد رحلات ربيعية. لنستعرض بسرعة الانهيار المنهجي لليرة السورية منذ منتصف ثمانينيات القرن الماضي، من جراء السرقة والنهب، وبالتالي الاضطرار التخريبي لطباعة أوراق نقدية بلا قيمة.
في عام 1986 كان الدولار الأمريكي يساوي 12 ليرة، وبعدها بأربع سنوات بلغ 48 ليرة، ليصبح في عام 1995 أكثر من 52 ليرة! وقبل ثلاثة أشهر بلغت قيمته لعدة أيام (داخل سورية) قرابة 130 ليرة، وهو يتأرجح الآن ما بين 90 و100 ليرة. في حين كان الدولار في عام 1970 (عندما وصل الأسد الأب إلى السلطة) يساوي 3,90 ليرة سورية. يقول جوش بيلينج الكاتب الفكاهي الأمريكي ''طريق الخراب يكون دائمًا جيدًا في تشييده، والعابرون يدفعون تكاليف التشييد''. بشار الأسد لن يعبر أبدًا بعد الفظائع التي ارتكبها ويرتكبها بحق الشعب السوري والإنسانية. ومع ذلك فإنه سيترك للعابرين الحتميين همومًا اقتصادية، سيعيشون فيها إلى جانب ذكريات فظيعة، ستعجز حتى المصائب عن محوها. إنها ذكريات سيكون نسيانها ترفًا.