"جعجعة بلا طحين" هكذا حال الحكومة في موضوع سلسلة الرتب والرواتب لموظفي الدولة، وقد مر على وعدها لهم 14 شهرا، فلم يجنوا منه الا تفاقما في معاناتهم بعدما ادى الى ارتفاع الاسعار في كل ما يواجهونه من مأكل ومشرب وملبس ومسكن وطبابة. فأمام هذا الوضع المحير اصبح التساؤل ضروريا عن حقيقة نية الحكومة ومدى جديتها في اطلاق وعدها! تقديري ان الحكومة لم تكن جدية، وان ما تحضره في مطبخها ما هو الا "طبخة بحص" مشبوهة تقوطب على تحرك الموظفين الغاضبين: اضرابا وتظاهرا واعتصاما! وقناعتي هذه تنطلق من الاعتبارات التالية:
1 – صمت الحكومة اذنيها عن سماع آراء الكثيرين من الاختصاصيين في الشأن المالي ممن طرحوا حلولا تؤدي الى تغطية نفقات السلسلة فلم تأخذ برأيهم، بل جيشت الهيئات الاقتصادية التي لا يحركها سوى الجشع والانانية ابتزازا لمال المساكين لتقوم بحملة معاكسة التوازن بين الجهتين تتذرع بها الحكومة للمماطلة والارتداد عن وعدها.
2 – نسمع اصواتا من النواب تتنبى مطالب الموظفين وتدعو الحكومة الى اقرار السلسلة بتغطية نفقاتها من عائدات الاملاك البحرية والعقارية الى سواها من سبل، بل لم تعرها اي اهتمام مما يفترض بالنواب استعمال حقهم الدستوري في وجه الحكومة لرفع الغبن عن موكليهم.
3 – تضم الحكومة نوعين من الوزراء: النوع الاول جماعة من رجال الاعمال الكبار اصحاب المليارات (بالدولار)، كرئيسها ووزير ماليتها وغيرهما. والمعروف ان الرأسمالي يعتبر الند والخصم للطبقة العاملة. فمن الطبيعي الا يعطوا الموظفين طوعا. والنوع الثاني مجموعة وزراء تابعين لرؤساء الاحزاب السياسية. وهؤلاء نراهم منشغلين بخلافاتهم اليومية حول الحوار والسلاح والانتخابات والاحداث الجارية في سوريا والمنطقة الخ... اما مصالح المواطنين فثانوية بالنسبة اليهم.
4 – ما زلنا نسمع من السياسيين المعارضين او الموالين اتهامات بالاهدار الذي يرافق نشاط الحكومة من مشاريع لا جدوى فيها اصلا او غير ملحة في الظروف الحالية على الاقل. واذكر على سبيل المثال مقالا لي نشرته "النهار" اواسط تشرين الاول الماضي عن قيام شركة طيران الشرق الاوسط بإنشاء مبنى جديد للتدريب كلفته الاولية 43 مليون دولار يتحملها مصرف لبنان المركزي المالك الوحيد لاسهم الشركة، وبالتالي الخزينة العامة باعتبار مال المصرف مالا عاما يؤخذ من جيوب المواطنين لغاية لا تعود عليهم بأية منفعة. بينما هناك مركز قريب تملكه الدولة منذ سنة 1964 وهو جاهز بعد اعادة ترميمه في تسعينيات القرن الماضي. ولا بد ان نشير الى انه كان الاحرى بمجلس الوزراء ان يسأل الحاكم الذي حضر الجلسة، عن هذه النفقة لا ان يسكت عنها مكتفيا بأخذ رأيه عن السلسلة ليخرج المجلس بتصريح يبشر فيه بتخفيض ارقام الزيادة التي سبق ان خص بها السلسلة.
5 – تتذرع الحكومة بعجز الخزينة العامة عن تمويل السلسلة، وتتجاهل ان في متناول يديها كنزا ثمينا او موردا دائما، الا وهو شركة كهرباء لبنان! فأسعار التيار الكهربائي عندنا تعتبر من اغلى الاسعار عالميا والمواطن اللبناني يسدد قيمة الفواتير المستحقة عليه دون تأخير، فكيف لنا ان نفهم خسائرها التي تجبر الدولة على تغطيتها بقيمة مليار و500 مليون دولار سنويا، وهذا المبلغ يكفي وحده للتغطية.وليس الامر بغريب فالحكومة ما زالت تتجاهل هذا الوضع عجزا او قصدا، لان المتسبب بالخسارة اقوى منها او فرد من كيانها تقع مصلحته باستمرار هذا الوضع.
6 – كيف لنا ان نفهم زيادة رواتب القضاة بنسبة 110% وقد قررت ونفذت منذ 15 شهرا، ولم نسمع ان احدا من الوزراء او النواب تجرأ على الاعتراض. فضلا عما يؤمنه لهم صندوق التعاضد من تقديمات. بينما سائر موظفي الدولة ينتظرون بعضا من هذا العطف الذي اغدقته على القضاة. حتى غدا راتب القاضي في الخدمة او التقاعد يعادل ضعفين ونصف الضعف راتب المدير العام مثلا المعتبر المسؤول الدائم عن مصالح الناس في وزارته او السفير الذي يمثل لبنان في الخارج رئيسا وسلطة وشعبا. اما لماذا تعامل الدولة موظفيها على اساس ابن الست وابن الجارية؟ فلأنها تنطلق اولا واخيرا من المصالح الشخصية للقيمين عليها.
7 – وبافتراض عدم صحة كل ما ذكرته من اسباب لقناعتي بعدم جدية الحكومة يبقى سبب واحد كاف للاقتناع وهو معرفة الحكومة نفسها فضلا عن كل الناس، انها مرشحة قريبا للاقالة او الاستقالة، مما يعفيها من مسؤولية الوفاء بالوعد بانتقال الموضوع برمته الى حكومة تخلفها وفي حال تعذر ذلك تحولها حكومة تصريف اعمال توقف صلاحيتها في موضوع السلسلة. هي طبخة بحص تحضرها الحكومة بمسرحية هزيلة لم تكن لتنطلي على موظفي الدولة ولم يكن هؤلاء ليرتضوها على رئيسها ووزرائها. فقديما قيل "شيمة الكرام الوفاء".