فسخ الدوري الإنجليزي عقده مع خدمة البث الصينية (PPTV) عقب تأخرها في تقديم الدفعة الأولى من العقد، ليُحرم الجمهور الصيني من متابعة البطولة عبر التلفزيون حتى إشعارٍ آخر.
السبب الرئيس يعود إلى الأزمة الاقتصادية التي طاولت جميع الشركات بعد جائحة كورونا، لكن يبدو أن القرار الذي دُفع إليه الدوري، يتعدى هذه الأزمة، ويرتبط بنظيرتها السياسية بين بكين ولندن.
تبدأ أحداث الشريط الزمني في عام 2015، حين كانت بريطانيا تستعد للانسحاب من الاتحاد الأوروبي تحت عنوان ما عُرف بـ «بريكسيت». كان من المتوقع أن يتضرر النظام الاقتصادي في المملكة المتحدة في حال تطبيق قرار الانسحاب، وأحد الحلول كان الاتجاه شرقاً، نحو الصين. بعد سنةٍ واحدة تم الاستفتاء، والنتيجة جاءت بتصويت الأغلبية على الانسحاب.
عام 2019، حصلت خدمة البث الصينية (PPTV) المملوكة من قِبل شركة «سونينغ» على حق بث مباريات الدوري الإنجليزي الممتاز في الصين ومنطقة ماكاو الإدارية، التي تشمل ماكاو وهونغ كونغ، لمدة ثلاث سنوات، بقيمة 616 مليون يورو، بعدما كانت قد وقعت صفقة سابقة، عام 2016.
في هذه الفترة كان الرئيس الصيني شي جين بينغ، قد تعهد بجعل الصين القوة الاقتصادية الرياضية الأكبر في العالم بحلول عام 2025، وهذه الصفقة، كانت ضمن الخطة.
بعد عامٍ واحد، حظرت الحكومة البريطانية مشاركة شركة «هواوي» الصينية في شبكة الجيل الخامس للأنظمة اللاسلكية. توترت العلاقات بين بكين ولندن، وفي تطورٍ للأحداث، فسخ الدوري الإنجليزي العقد مع الشركة الصينية، مُضحياً ليس بأكبر عقدٍ خارجي أتمه فحسب، بل بالجمهور الصيني، وبعائداتٍ ماليةٍ ضخمة تساعد أنديته. هذه الخطوة، بدا أن الصينيين دفعوا رابطة الدوري إلى اتخاذها، ويبدو أن أبعادها أكثر من اقتصادية.
ما وُصف بـ «العصر الذهبي» في العلاقات بين بريطانيا والصين، لم يمتد سوى خمس سنوات فقط. بعد إعلان الحكومة البريطانية قرارها حظر مشاركة شركة «هواوي» الصينية في شبكة الجيل الخامس، توترت العلاقات بين البلدين. الصين اعتبرت أن مستقبلها في بريطانيا بات مسيساً، وأن «هناك ثمناً يجب أن يدفع»، ويبدو، أن الدوري الإنجليزي الممتاز من ضمن هذه الفاتورة الكبيرة.
بالنسبة إلى شركةٍ تجاوز حجم عائداتها في السنة المالية الأخيرة 38 مليار دولار، لا يبدو مبلغ يقارب نصف المليار مقسم على ثلاث دفعات رقماً ضخماً. صحيحٌ أن شركة «سونينغ» تأثرت بالأزمة الاقتصادية الراهنة بفعل انتشار فيروس كورونا، إلا أن تأخرها في دفع المبلغ المستحق عليها في السنة الأولى من العقد يبدو مقصوداً، بهدف فسخ الشراكة بينها وبين الدوري الإنجليزي، وهو ما حصلت عليه.
هكذا، لم يعد الجمهور الصيني قادراً على مشاهدة مباريات الدوري الإنجليزي عبر التلفزيون، وصار مجبراً على المتابعة عبر الإنترنت، في حين خسر كل نادٍ من أندية الدوري الإنجليزي مبلغ 9 ملايين جنيه استرليني، من عائدات النقل التلفزيوني، وهي في أمس الحاجة إلى هذه المبالغ بعد الأزمة الاقتصادية التي طاولتها، وكانت قد فصلت بعض الموظفين، كما قلصت رواتب اللاعبين والجهازين الفني والإداري.
الدوري الأميركي كان سباقاً
في العام الماضي، قاطع التلفزيون الصيني بث مباريات الدوري الأميركي لكرة السلة (NBA).
جاء ذلك عقب تغريدة للمدير العام لفريق هيوستن روكيتس، داريل موري، عبر «تويتر»، دعم فيها الاحتجاجات في هونغ كونغ، ليسحب عددٌ من رعاة وشركاء من الصين ارتباطاتهم بالدوري الأميركي، على الرغم من اعتذار موري وحذفه التغريدة، بعد الضرر الذي تسبب به للبطولة.
حينها، كشف مفوض دوري كرة السلة الأميركي للمحترفين آدم سيلفر، أن حجم الخسائر الرابطة وصل إلى ملايين الدولارات، ليس بسبب تغريدة موري فحسب، بل بسبب الحرب التجارية بين بكين وواشنطن.
خطوةٌ مشابهة قامت بها بكين، حين فسخت «هواوي» عقد رعاية نادي كامبيرا رايدرز في دوري الرجبي الأسترالي، بعد صفقةٍ استمرت لنحو عقدٍ من الزمن، بسبب «استمرار بيئة الأعمال السلبية»، بعدما اتبعت أستراليا النهج الأميركي وحظرت الشركة الصينية من المشاركة في شبكة الجيل الخامس.
أما مقاطعة بث المباريات في إنجلترا فلم يبدأ مع بداية الخلاف الصيني البريطاني، بل إن التلفزيون الصيني امتنع عن بث بعض مباريات آرسنال، عقب سلسلة تغريداتٍ للاعبه الألماني من أصل تركي مسعود أوزيل، مندداً بتعامل السلطات الصينية مع مسلمي الإيغور.
النادي نأى بنفسه عن تغريدة لاعبه، في حين رد الاتحاد الصيني لكرة القدم على أوزيل، المقرب من الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، معتبراً أن تعليقاته «أضرت بمشاعر الجماهير الصينية».
بل إن الشركة صاحبة الحق الحصري في بث مباريات الدوري الإنجليزي في الصين، خفضت عدد المباريات المبثة عبر شاشتها، ولم تعد تبث مباريات جميع الأندية عبر قناتها الأساسية، بل نقلتها إلى (CCTV5+)، التي لا تتمتع بعددٍ كبيرٍ من المشاهدين.
ما وراء الاقتصاد
لا شك في أن الدوري الإنجليزي فسخ العقد بسبب تأخر خدمة البث الصينية عن دفع المستحقات، لكن ثمة استغراباً من ما إذا كانت شركة «سونينغ» غير قادرة فعلياً على دفع ما عليها.
الشركة المالكة لإنتر ميلانو، تمتلك أيضاً عدداً من الشركات الفرعية، أبرزها (PP Sports)، وهي صاحبة الحق الحصري ببث مباريات الدوريات الأوروبية الأربعة الأخرى، في إيطاليا وألمانيا وفرنسا وإسبانيا، إلى جانب إنجلترا، ولم تتأخر في تسديد المستحقات في تلك الدوريات.
بالعودة إلى قرار حظر استخدام معدات «هواوي» في شبكة الجيل الخامس، علقت المتحدثة باسم وزارة الخارجية الصينية، هوا تشونيينغ، في يوليو الماضي، على هذا القرار، حين قالت: «إن استبعاد «هواوي» يهدد بشكل خطير أمن الاستثمارات الصينية في المملكة المتحدة»، فيما يبدو هو تهديدٌ بانسحاب الشركات الصينية من الاستثمار في بريطانيا، وهو أمرٌ يضر المملكة المتحدة أكثر من الصين، خاصةً بعد انسحابها من الاتحاد الأوروبي.
الشركة الصينية أشارت إلى أنها حاولت التفاوض مع الدوري الإنجليزي حول حجم المبلغ الذي يجب أن يُدفع، بسبب منع الجمهور من الحضور في الملاعب والأزمة الاقتصادية التي طاولت جميع الأطراف، دون أن يتوصل الطرفان إلى اتفاق. كما أن بيانها ذكر أن هذه الخطوة «لا دور للسياسة فيها ولا يوجد هدف منها لمعاقبة الدوري الإنجليزي».
في المقابل، أشارت تقارير إنجليزية إلى أن الدوري الممتاز يبحث عن شركاتٍ صينية أخرى لتقديم حق بث المباريات لها، ويحاول ألا تذهب الحقوق إلى شركةٍ واحدة، في خطوةِ الهدف منها عدم خسارة الجمهور الصيني.
أرباحٌ بمئات ملايين الدولارات
أشارت دراسة استقصائية لـ (Brand Finance)، إلى أن 56% من الجمهور الرياضي الصيني يشجعون نادياً إنجليزياً واحداً على الأقل.
شملت الدراسة 16 دورياً و316 نادياً حول العالم، وتبين أن أندية الدوري الإنجليزي تحصل على النسبة الأكبر من المتابعة في الصين. كما أن 37% من هؤلاء المشجعين، يتابعون حسابات الأندية عبر وسائل التواصل الاجتماعي. الربح يبدأ مع شراء 88% من المشجعين الصينيين بضائع من الأندية الإنجليزية.
عام 2016، وقع مانشستر يونايتد عقداً مع «سينا سبورت» الصينية، لتحصل على حقوق بث قناة النادي الإنجليزي، لتصل إلى أكثر من مئة مليون متابع في الصين. النادي يقوم عادةً بالتحضير للموسم بخوض عددٍ من المباريات في الصين، كما يفعل مانشستر سيتي وتوتنهام، لكن هذه الجولة ألغيت هذه السنة بسبب تفشي فيروس كورونا.
عموماً، جزءٌ لا بأس به من إيرادات الأندية الإنجليزية يأتي من الصين، بسبب القاعدة الشعبية الرياضية الكبيرة هناك، والسوق التجاري الضخم في البلاد. بالتالي، لا يود أي نادٍ أن يخسر السوق الصيني، وهذه الأندية ستضغط على الدوري لعقد صفقةٍ جديدة، تعيد بث المباريات للجمهور.