يقيم المركز القومي للترجمة حفل توقيع ومناقشة للترجمة العربية لكتاب " النظام القديم والثورة الفرنسية" التي أنجزها المترجم المعروف خليل كلفت وذلك في التاسعة من مساء الثلاثاء المقبل 16 أغسطس/ آب بجناح المركز في معرض الكتاب الذي تنظمه الهيئة المصرية العامة للكتاب بحي فيصل .
الكتاب الذي صدرته ترجمته العربية عن المركز القومي للترجمة تأليف الكاتب الفرنسي أليكسي توكفيل وهو مُترجَم ومنشور قبيل الثورة الشعبية السياسية فى مصر منذ 25 يناير 2011.
وضع توكفيل كتابه هذا بعد ثورة 1789 الفرنسية الكبرى، وحسب مترجم الكتاب خليل كلفت " كما كان على توكفيل أن يدرس ويحلل ثورة بلاده بعد ستين سنة علينا أن ندرس ونحلل ثورتنا الآن".
ويتألف الكتاب من ثلاثة أقسام: يتناول القسم الأول طبيعة الثورة، ويدرس القسم الثانى بفصوله الاثنى عشر الوقائع "المادية" لهذا "النظام القديم"، على حين يبحث القسم الثالث مسألة لماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية.
والمؤلف يبين أن الثورة الفرنسية كانت ثورة سياسية وإنما اتخذتْ مظهر الثورات الدينية بحكم طابعها الفكرىّ العالمىّ وتبشيرها بمبادئ تنسجم مع روح العصر، أما ما حققتْه الثورة الفرنسية بالفعل فقد تمثل فى كونها تكملة لعمل طويل سابق عليها كان النظام القديم قد أنجزه بالفعل .
والنظام القديم، عند توكفيل يعني فترة متأخرة للمجتمع الأرستقراطي عندما صار ممزَّقا بالمبادئ المتناقضة، وانفصال النظام المدنىّ عن النظام السياسىّ، واللامساواة المدنية (بقايا الإقطاع أو ما أعادت الأريستقراطية اختراعه)، والمساواة السياسية (تَساوِى الجميع فى الخضوع للملك). وعلى هذا الأساس كانت فرنسا هى التى اندلعتْ فيها الثورة .
وقد شهدت فرنسا النظام القديم على فترة الحكم المطلق ، ويعنى هذا أن الصيغة الثورية كان لها واقع تاريخىّ على مدى فترة قصيرة نسبيا فقط، تمتدّ من عهد لويس الثالث عشر (ملك فرنسا: 1610-1643) إلى عهد لويس السادس عشر (ملك فرنسا: 1774-1791)، أىْ على مدى أكثر من قرن.
وكما يقول كلفت فإن الثورة الاجتماعية إذن هى العمليات التراكمية الطويلة التى يتحقق من خلالها الانتقال من نظام اجتماعىّ إلى نظام اجتماعىّ آخر وقد تحتاج فى فترة من فترات تطوُّرها إلى ثورة سياسية عنيفة بطبعها فى مواجهة المقاومة الداخلية (الحروب الأهلية) والخارجية (الحروب الدفاعية والهجومية) .
ويجب أنْ يكون واضحا أن الحديث عن عنف الثورات لا ينبغى أن يحجب عنا حقيقة أن ثورات التطورات التدريجية لا تجهل العنف فهى بدورها وربما بصورة أكبر ثورات دامية من خلال أشكال وأنواع من الحروب الداخلية والخارجية قد تجلبها تطورات بنيوية وظرفية، داخلية وخارجية، عسكرية واقتصادية، قانونية وپوليسية، ويكفى التوقف قليلا عند بعض التراكمات البدائية لنرى مدى وحشيتها داخل وخارج الحدود بل إن الحرب تكاد تكون شكلا نموذجيا كشرط من الشروط الموضوعية للانتقال مثلا من العبودية إلى الإقطاع .
وهل يمكن فصل الغزوات الشمالية البربرية للإمپراطورية الرومانية كشرط حاسم من الشروط الموضوعية لانتقال أوروپا من العبودية إلى الإقطاع جنبا إلى جنب مع عناصر للمجتمع الإقطاعىّ الجديد كانت قد نمتْ فى قلب المجتمع العبودىّ وخلال عمليات تفسُّخه؟ .
وهل كانت الفتوحات المتواصلة فى شرقنا بعيدة عن الانتقال من النظم القديمة إلى الإقطاع (مثلا فى مصر)؟ وناهيك بالتراكم البدائىّ للرأسمالية فى إنجلترا أو روسيا السوفييتية!
ويتساءل توكفيل في القسم الثالث من كتابه : لماذا إذن سارت فرنسا فى طريق الثورة العنيفة؟ ولماذا حدثت الثورة فى فرنسا دون غيرها من بلدان أوروپا الغربية التى كانت تشترك معها فى نفس مسيرة الحضارة الرأسمالية الحديثة، من جهة، والتى كانت شعوب بلدان منها (ألمانيا بالذات) تعانى معوقات الامتيازات والحقوق الإقطاعية والمَلَكِيَّة وبقايا القرون الوسطى بصورة أشدّ وطأة بما لا يُقاس؟
ولعلّ من الجلىّ أن التقاطع بين مجموعة من الشروط الموضوعية والذاتية هو الذى رشَّحَ فرنسا لذلك الحدث الكبير، لاندلاع ثورة 1789 منها: ضعف الإقطاع، ضعف القنانة، إفقار وتدهوُر النبلاء، تطوُّر المِلْكِيَّة العقارية الفلاحية، نموّ الصناعة والزراعة والعلاقات السلعية النقدية، تبلوُر طبقة برچوازية من رجال المال والأعمال، تبلوُر طبقة عمالية واسعة، الثورة الفكرية والأدبية وبروز الفلاسفة والمفكرين والأدباء كقيادة سياسية للشعب، ازدياد الشعور بوطأة الامتيازات والحقوق الإقطاعية والنفور الشديد منها ومن الإقطاع الدينىّ بحكم هذه التطورات التقدمية ذاتها، التهاب كراهية اللامساواة والرغبة فى الحرية، الاندفاع الثورىّ الناتج عن كل هذا.
وهناك مسألة دقيقة يطرحها توكفيل ويعيد طرحها المرة تلو المرة: المفارقة المتمثلة فى التناقض بين ما أراد الفرنسيون أنْ يحققوه عندما قاموا بثورة 1789 وما حققوه بالفعل.
وكانت ثورة 1789، كما رأينا، رأسمالية من حيث محتواها، وبالتالى رأسمالية من حيث قيادتها وأهدافها ورسالتها التاريخية وأداة كبرى لتحقيق النظام الاجتماعىّ الاقتصادىّ الرأسمالىّ، والمجتمع الرأسمالىّ، والاستغلال الرأسمالىّ، والاستبداد الرأسمالىّ، فلا عجب إذن فى أنْ يعانى الفرنسيون فى نهاية المطاف استغلاله وقهره بعيدا عن الحرية والمساواة والإخاء التى كانت شعارات تعبئة البشر الذين كانوا وقود الثورة، ولا عجب إذن فى أنْ يصطدم الحلم القائم على الأوهام بالواقع العينىّ الوحشىّ الذى يتحقق بتراكم "طبيعىّ" فى غاية "البراءة"!
و توكفيل، الذى يرثى بكل هذا الحنين زمن الثورة وأحلام وسخاء وتضحيات مَنْ قاموا بها، لا تساوره هو نفسه أىّ أوهام فهو يعلم جيدا (بل هو المكتشف لواقع) أن الفرنسيِّين إنما قاموا بتشييد صرح مجتمعهم الجديد باستخدام أنقاض "الثورة الأولى" أىْ "النظام القديم"، وإذا كانت ثورة 1789 ما تزال مستمرة فى زمنه، كما يقول، فإن تلك "الثورة الأولى" (أىْ "النظام القديم") هى التى كانت مستمرة إذن.
يشار الى أن خليل كلفت مترجم وناشط سياسي وناقد أدبي كبير .