كلما تشكّلت حكومة جديدة يحتدم الاشتباك حول مشروع قانون تنظيم قطاع التأمين المقترح منذ العام 2004، فالوزير الجديد، أياً تكن هويته السياسية، سيجد نفسه لحظة استلامه مهامه في مواجهة استحقاق، عواقبه قد تكون وخيمة، وهو: إقرار قانون تنظيم قطاع التأمين في لبنان، برغم العراقيل والعقبات المنتصبة في وجهه.
ذاك أن قطاع التأمين في لبنان يعيش «على كيفه» بلا رقيب ولا حسيب ولا من يحزنون، ما يترك المستهلك بلا حول ولا قوة، في مواجهة شركات أقوى منه بكثير على كل الأصعدة، كما يعجز المواطن المغلوب على أمره عن مواجهتها، حتى في قاعات المحاكم، التي تكلّف على ما هو معلوم، الكثير والكثير!
ولم تفت أحد تقارير البنك الدولي (صدر منذ أشهر) الإشارة إلى غياب الضوابط المنظمة لعمل شركات الضمان في لبنان، إذ وضح التقرير بالحرف: إن قطاع التأمين في لبنان اتسم خلال العقود الستة الفائتة بكونه غير منظم. ولفت التقرير ذاته إلى أن قانون التأمين المعمول به في الوقت الحاضر بات قديماً، ما اضطر المراقب إلى مواجهة قطاع عدائي لدى محاولته تقديم نهج عصري لمقاربة المخاطر في القطاع.
لا غرو أن بعض شركات التأمين في لبنان لا ترى ما يراه البنك الدولي، وتصر، بناء على رؤية خاصة جداً لمصالحها الذاتية، على رفض أي تشريع في هذا المجال، قد يضر، وفق تصورها عينه، بربحيتها العالية، تلك التي لا تتحقق إلا على حساب نوعية الخدمة التي يشتريها المواطن، بغية حماية نفسه أو أحد أفراد عائلته من المجهول.
أبعد من ذلك، تعادي بعض شركات التأمين، على ما يشدّد مصدر لصيق بأوضاع قطاع التأمين في لبنان، أي منحى جدي لإصلاح القطاع المالي، فتعمل طوال الوقت على الحيلولة دون إقرار تشريع قوي، من شأنه تعزيز الرقابة على أدائها وعملياتها المعقدة، فضلاً عن علاقاتها بعملائها، لذا، تبدو مستعدة لخوض معركة طاحنة بغية منع إقرار مشروع قانون تنظيم قطاع التأمين الموجود اليوم في اللجان النيابية، والمقترح منذ عام 2004.
فما هي قصة مشروع القانون المذكور أعلاه؟ وما خلفيات رفض بعض أعضاء جمعية شركات التأمين لإقراره؟
نموذج القانون الجديد صيغ بدعم من البنك الدولي ومؤسسة النقد الدولية ومبادرة إصلاح القطاع المالي وتعزيزه، وقد شغل أحد معدي القانون الجديد وهو الكندي كولين ماكنايرن (خريج جامعة هارفارد)، منصب الشريك في إحدى أبرز شركات المحاماة الكندية حيث تخصص في قوانين الضمان، ومعروف على أنه خبير في المجال النظري والتطبيقي لقوانين الضمان وكتب خلال الأعوام الأخيرة النشرة النهائية لقانون الضمان الفدرالي في كندا، كما شغل مناصب عدة تعنى بتطوير قوانين الضمان وإصلاح القطاع المالي، لا سيما لصالح حكومة أونتاريو.
أما الشريك الثاني في إعداد القانون، لاوري سافاج فقد عمل في قطاع الضمان والإشراف عليه طوال 37 عاماً، إذ شغل منصب المشرف على قطاع الضمان في مقاطعة اونتاريو من العام 1991 حتى العام 1995، كما شغل مناصب عليا في مكتب المشرف على المؤسسات المالية في كندا من العام 1966 حتى العام 1985، وشغل أيضاً مناصب رفيعة في أكثر من شركة معروفة للضمان، وهو يحتل مركز مدير برنامج في مركز تورونتو الدولي القيادي للإشراف على القطاع المالي، وهو مستشار لدى مكتب الضمان في كندا وجمعية شركات الضمان التي تتعاطى الأخطار العامة في كندا، ويحمل إجازة في علوم الرياضيات من جامعة كالغاري، وشهادة دراسة عليا من جامعة ايفي لإدارة الأعمال.
ما دلالات ذلك؟
كندا، وذلك ما تعرفه جيداً غالبية شركات التامين تُعتبر مرجعية لجهة قوانين التأمين بالنسبة للعالم بأسره، ويبدو ذلك جلياً لدى مراجعة جواب جمعية شركات التأمين الفرنسية على طلب نظيرتها اللبنانية دراسة مشروع القانون الجديد، ذاك أن جمعية شركات التأمين في لبنان عمدت في عام 2004 ولحظة تسلمها نسخة من المشروع، إلى إرساله إلى فرنسا بغية «تعريته» وتفنيده، لكن الرد الفرنسي جاء مخيباً لآمال بعض أعضاء الجمعية في لبنان، إذ قوّم الخبير الفرنسي جيروم ييتمان، المكلف بإجراء الدراسة، مشروع القانون إيجاباً، حيث قال انه «لا يسعنا سوى أن نوافق على اتجاهاته العامة وغالبية خصائصه» كما أرسلت لجنة الرقابة على هيئات الضمان مشروع القانون ذاته إلى لجنة الرقابة الفرنسية، التي أبدت ايجابية تامة تجاهه، مع بعض الملاحظات التحسينية، وقد أضاف ماكنايرن هذه الملاحظات إلى نص المشروع المقترح، بعد اطلاعه عليها، واقتناعه بجدواها.
فكيف يفسر بعض أعضاء الجمعية ممن عادوا، ولا يزالون يعادون، القانون، حقيقة ان قانوناً عاطلاً إلى هذا الحد اكتسب شهرة عالمية، ووجد أنصاراً له في قطاعات بعض الدول المتقدمة؟ هذا فضلاً عما أشار إليه البنك الدولي (التقرير ذاته المذكور أعلاه)، إذ وصف التقرير مشروع القانون الجديد بأنه مراجع بصورة جيدة من قبل أطراف خارجية، وبأنه ينتظر الإقرار منذ سنوات بلا طائل، وكيف يفسر هؤلاء حقيقة أن مشروع القانون الجديد يتماشى مع المبادئ الأساسية الموضوعة من قبل الجمعية الدولية لمراقبي التأمين التي تعنى بوضع المعايير في مجال الرقابة على التأمين؟
أنغلوساكسوني أم فرانكوفوني؟
هذا من جهة ومن جهة ثانية، تأخذ بعض شركات التأمين على مشروع القانون كونه أنغلوساكسوني فيما البيئة المالية اللبنانية، ومن ضمنها طبعاً قطاع التأمين، ذات طبيعة فرانكوفونية. وتعتبر القوانين الأنغلوساكسونية أن هدف الرقابة إيجاد قطاع مالي مستقر، فيما القوانين الفرانكوفونية تضع نصب عينيها حماية المستهلك، بيد أن ذلك غير صحيح بالمرة، لا بل مجحف بحق القانون والمستهلك والقطاع على حد سواء... إذ ينص القانون اللبناني المقترح على أن «مشروع القانون الجديد يضع إطاراً شاملاً لعمل صناعة التأمين ولحماية الناس من وجهة نظر ملاءة شركة التأمين وحماية المستهلك في آن واحد، وهي تشمل النواحي الأساسية التالية:
تنظيم لجنة الرقابة على التامين وإدارتها ومسؤولياتها؛ شروط إعطاء الرخص لشركات التأمين، بما فيها الحد الأدنى من رأس المال؛ إدارة شركات التأمين؛ الصلاحيات التجارية المعطاة لشركات التأمين، استثمارات شركات التأمين وتغطية الاحتياطي الفني؛ شروط مدققي الحسابات والخبراء؛ وضع التقارير والقيام بعمليات تفتيش تنظيمية؛ عمليات الدمج والتملك؛ سلوك شركات التأمين في الأسواق؛ تنظيم نشاط الوكلاء والوسطاء؛ التدخل الإشرافي؛ الصلاحيات والعقوبات العلاجية. ما تقدم يعني باختصار أن مشروع القانون اللبناني يحقق الهدفين معاً.
دكتاتور؟!
لدى بعض شركات التأمين هواجس أخرى، فهي تتخوف من إمكان تحويل اللجنة الجديدة المكلفة بتطبيق القانون، خصوصاً غداة مدّها بصلاحيات فعالة وقوية، إلى ما يشبه الـ«دكتاتور» فالشركات منحازة، بطبيعة الحال للديموقراطية! ولا تريد سلطة عليا تنصب نفسها فوقها، ولها حق التدخل في كل شاردة وواردة تتعلق بقطاع التأمين.
هذه الهواجس مشروعة وطبيعية، لولا أنها تتجاهل تجاهلاً تاماً أن تركيبة اللجنة المذكورة أعلاه تشبه إلى هذا الحد أو ذاك، ما هو معمول به في القطاع الخاص، إذ تمنح الصلاحيات الكبيرة للجنة ككل، فيما يتفرّد مدير عام اللجنة ببعض الصلاحيات الصغيرة، وذلك وفق ما يوضح أحد الخبراء المطلعين على نص القانون الأصلي لـ«السفير». لكن الشركات، وبحسب الخبير ذاته، تعتنق نظرية مفادها أنه في حال وجدت نفسها مضطرة إلى القبول بنص القانون المقترح، فالأجدى ضرب أداته التنفيذية (لجنة الرقابة) وتفريغ دورها من أي مضمون حقيقي، وهي تضغط من ناحية ثانية، في اتجاه أن تكون كل قرارات اللجنة جماعية، وأن يستثنى رئيس اللجنة من أية صلاحيات خاصة، وهو ما من شأنه في بلد كلبنان، أن يعطل بالمطلق عملية اتخاذ القرار في اللجنة، وتالياً، إلغاء مفاعيلها الرقابية على كل الأصعدة.
هذا علماً أن لجنة الرقابة على هيئات الضمان وافقت مؤخراً على إدخال تعديل جديد على نص القانون، ويقضي التعديل بأن تسمي جمعية شركات التأمين خمسة خبراء تأمين لا صلة تربطهم بأي شركة من الشركات العاملة في لبنان، على أن يختار وزير الاقتصاد أحد هؤلاء كممثل للشركات في لجنة الرقابة الجديدة.
لا يعود مستغرباً، في ضوء ما تقدم، أن يجيب أحد «أباطرة» قطاع التأمين لدى سؤاله عن ملاحظاته النقدية على نص القانون المقترح: «ما دخل وزارة الاقتصاد بهذا القطاع، ولماذا لا تهتم الوزارة بالمجالات التي تفهم فيها... عوض التدخل بشؤوننا؟!». هذه الذهنية الفظّة والمعادية لأجهزة الرقابة التي تهدف إلى حماية المستهلك، لا محل لها في أي مكان في العالم سوى في لبنان.
فالمواطن عندنا متروك دائماً لوحده... المطلوب منه أن ينزع شوكه بيديه العاريتين!