"هاهو عامي الخمسون جاء وانقضى، وها أنا اجلس رجلا متوحداً في مقهى بلندن"، كما أسلف وليم ييتس مرة، وكأنه يريد أن يقول إنه برغم إفلات كل ذلك العمر من يده، ليس في اليد حيلة، فقد بات أسير المكان.
كلنا أسرى الأمكنة.
أسرى الاعتياد..
والعادات التي نسجناها على مهل، بكثير من الحرص، وكأننا نبني معماراً للخراب، ونقنع أنفسنا أن تلك حياتنا، بل إننا نبالغ في ردود أفعالنا إذا باغتنا طارئ يكسر نظامنا وفوضانا التي غدت لكثرة تكرارها على ذات الوتيرة.. نظاماً.
نستيقظ مبكراً، نستقل السيارة أو نلحق أول حافلة، ننهمك في أعمالنا بتعليب الغبار واللهاث الغبي وراء مال، ونعود دون سبب واضح دائما إلى البيت، لنجالس التلفزيون، ونحتضن اللابتوب والخدر.. والفيسبوك.
نسر ببلاهة، أو "ننقهر" إذا داهمنا زائر على غير توقع، أو اضطررنا للذهاب إلى مناسبة لا تحتمل الإرجاء، مدعين أننا قمينون باحترام ووجاهة.
تفو.. على الوجاهة.
هذا الصباح، ثمة قصائد ندية تهب من آفاقي جميعاً، إيحاءات ورغبات خلتها ميتة، تنهض دافعة التراب والرخام والسخام والنسيان لتقول لي: تبا لكل ما أنت.
هياكل عتيقة تجتاح سجني ومعبدي وقلعتي الحصينة، قلعة الهراء الحصينة! تدفعني إلى نافذتي، تكسر أصنام آلهتي، على ايقاع بهيج لكونشيرتو كمان شرد من دفاتر التدوين، وصناديق الادخار، وقوانين "المضبوعات" والعزف.
صحتُ كغريق
- أريد أن أشهد صباحات الربابنة: موجاً وبرداً وآفاقاً
- أريد أن أشهد صباحات الأنهار: عنفوانا وغناءً وانتحاراً.
لا أذكر كيف انبعثت في داخلي صيحة رامبو: إلى البحر..! بعدما خط متمرداً: "أرسلتُ إلى الشيطان أكاليل الغار وكبرياء المبدعين، وتوجهت نحو ينبوع الحكمة الأبدية". ملوحا بنزق لا يبلى.. من فوق مركب عابر في رأسي.. نشوان.
- البحار لي، والنوء لي، والرمح الوثني لي، وما تركت، إذ غفوت على صهوة الأبد، وصحوت.. وراء مكتب، مقيدا بالعدم.
..غداة بدأت استشعر انهمار الأمطار، ورذاذ الأمواج العالية والبحار البعيدة وعصف الأشرعة في إعصار وحشي يضج بالوعيد والنوارس والمستحيلات.
.. غداة مزقت قميصي وغرست أظفاري في وجهي، وعدتُ غجريا يقطر أرجواناً وغضباً وعطر غابات، شدتني يد طفلي "عمر"، ابن الخمس سنين، من طرف بنطالي، قائلاً: بابا..إلى أين؟.. لا تنس وأنت عائد إلى البيت أن تشتري لي "سي دي".
..............
- وليم بتلر ييتس: شاعر وكاتب مسرحي انجليزي
- جان ارثر رامبو: شاعر فرنسي