تعدّ فرنسا، بحسب دراسة للمعهد الوطني للاحصاء والدراسات الاقتصادية في العام 2010، حوالي 2.1 مليون شخص يعتبرون أنفسهم مسلمين في فرنسا. في المقابل، تعتبر وزارة الداخلية أن هناك ما بين 5 و6 ملايين مسلم في فرنسا.
الاختلاف الكبير في التقدير يرتبط بكيفية تحديد «المسلم»، فوزارة داخلية فرنسا «العلمانية» تحسب مسلماً كلَ من تعود أصوله إلى دولة ذات غالبية إسلامية. ورئيسها الخارج على الأرجح نيكولا ساركوزي، ساهم إلى جانب عظماء مفكري فرنسا في اختراع مصطلح جديد هو «المسلم بالمظهر» (musulman d’apparence) خلال حديثه عن جنديين فرنسيين من أصول عربية قتلهما، بحسب السلطات، فرنسي آخر من أصول عربية.
وليس مهماً إن كان صاحب حانة أو إمام مسجد أو ناشطاً تروتسكياً أو ربّ عائلة يؤرقه إطعام عائلته أكثر من «سفور» ابنته، فـ«المسلم» في فرنسا اليوم، وعلى أعتاب انتخاب الرئيس المقبل للبلاد، علامة تجارية سياسية بامتياز، تسمها الإثارة الرخيصة في مرحلة «الربيع العربي» وما يرافقه من خيالات استشراقية حول «الإسلام السياسي» بين مراهن ومهوّل. بين اليمين الذي يقتات على الهوس الأمني والنسخ المختلفة من رهاب «الغزو الإسلامي»، واليسار الذي يتغذى اليوم من تكتيكات اليمين ليعيد تكريس نفوذه بين أوساط «مسلمي فرنسا» الجدد.
وبالأمس، شهدت مئات المساجد الفرنسية حدثاً غير مسبوق. عند حوالي الساعة الواحدة من بعد الظهر، صدحت أصوات خطباء الجمعة في أكثر من 700 مسجد فرنسي لتفتي بـ«حلال» المرشح الاشتراكي فرانسوا هولاند و«حرام» الساركوزية، ولتنقل نداء هولاند بالمشاركة الكثيفة في الاقتراع إلى داخل المصليات الفرنسية. هي أيضاً تجارة انتخابية بـ«الإسلام»، ولكن بصورة معكوسة هذه المرة. ففي مقابل مارين لوبان، خليفة والدها جان ماري (بطل تعذيب الثوار الجزائريين) على رأس «الجبهة الوطنية»، وضيق صدرها بالمصلين الذين يفيضون عن مساحات الصلاة المخصصة لهم «جمهورياً»، وبـ«زحفهم الإسلامي إلى البيت الفرنسي»، يقلب هولاند الآية فيُدخل سياسة «الجمهورية» إلى المساجد، بمساعدة...مستشار سابق لساركوزي في شؤون «دمج المسلمين».
وتشير مجلة «ماريان» الفرنسية إلى أن منظّم الحملة الاشتراكية داخل المساجد الفرنسية، ليس سوى عبد الرحمن دحمان، الذي أقاله ساركوزي من منصبه كمستشاره لشؤون الجمعيات المسلمة في آذار العام 2011 بسبب رفضه قرار الرئيس الفرنسي بإطلاق «نقاش وطني» حول مستقبل الإسلام، بعدما كان أدخله الإليزيه مع وجوه «أقلوية» أخرى في مرحلة من ولايته الرئاسية كانت تستدعي ذلك.
دحمان، الذي ترك حزب الرئيس ودعا جميع محازبيه المسلمين السابقين إلى الاحتذاء به، يعمل اليوم مستشاراً لدى «مسجد باريس الكبير»، وقد التقى هولاند قبل شهر مضى، في خضم الجدال حول الإسلام في فرنسا، كما من المقرر أن يلتقي الرجلان مجدداً بين الدورتين الانتخابيتين.
ولا تعفي المناورة «الإسلامية» لهولاند، الذي يستبعد أن يحمل معه أي حلول جذرية لواقع الضواحي الفرنسية ولا لمشاكل ذوي الأصول الاجنبية من مسلمين وغير مسلمين، ساركوزي من رصيد ثقيل زاخر بالقرارات والقوانين والسياسات التي أقلقت مسلمي فرنسا وعربها وأجانبها من كل حدب وصوب، وأثرت مباشرة بشكل سلبي في حياتهم على عدد من المستويات.
عند جلوسه على منصب الرئاسة في العام 2007، أنشأ ساركوزي وزارة «للهجرة والدمج والهوية الوطنية والتنمية المشتركة» نصّب على رأسها «جنراله» الوفي بريس هورتوفو، ليقرّ أول قانون حول الهجرة يشمل اللجوء إلى فحوصات جينية ضمن عملية «لمّ شمل العائلات»، ما أثار ردود فعل مستنكرة واسعة الانتشار.
وفي العام 2009 أطلق الوزير الهارب – حينها - من الحزب الاشتراكي اريك بيسون «النقاش الكبير حول قيم الهوية الوطنية»، الذي أسال الكثير من الحبر وأثار ساعات طويلة من المشادات الإعلامية من دون أن يخلص إلى أكثر من بعض الاجراءات القانونية الهامشية التطبيق. في نهاية العام 2010، ألغى ساركوزي الوزارة ونقلت مهامها إلى وزارة الداخلية.
ساركوزي قرر أيضاً أن يحطم الأرقام القياسية في سجلات طرد المهاجرين من فرنسا. فمن حوالي 12 ألف عملية اقتياد إلى خارج البلاد في عهد الحكومات السابقة، انتقل ساركوزي إلى 23 ألفا في العام 2007، ليصل إلى 33 ألفا في العام 2011، ويحقق هدفه في تحطيم الرقم القياسي فرنسياً.
«مذكرة غيان» التي وضعها وزير الداخلية الحالي كلود غيان، تعدّ أيضاً من أبرز علامات الساركوزية في التعامل مع الاجانب. ففي أيار 2011، أصدر غيان توجيهاً إلى بلديات فرنسا بتطبيق صارم للقواعد في مجال تجديد بطاقات الإقامة للطلاب المتخرجين من فرنسا الذي يريدون الانتقال إلى حالة العمل، بعد حصولهم على وظائف لدى مؤسسات في فرنسا. وبدأ تطبيق هذه المعايير بالفعل منذ صيف 2011، ما أدى إلى حرمان عدد كبير من الطلاب المتخرجين في فرنسا من البقاء فيها للعمل في وظائف قد حصلوا عليها بالفعل!
عاد غيان في كانون الثاني 2012 ليصدر نصاً «يوضح» فيه مقاصد المذكرة الأساسية ضمن محاولة للرجوع إلى الوراء، لكن الممارسة على الأرض تبقى إلى حد كبير ملتزمة بالتوجيه الأساسي بعرقلة طلبات تجديد الإقامة.
آخر حلقات «الدراما الإسلامية» في فرنسا كانت جرائم تولوز التي نسبت إلى الجزائري الأصل محمد مراح، وما تبعها من حملات أمنية تحت أضواء الكاميرات ضد «ناشطين إسلاميين»، وقرارات منع دخول دعاة إسلاميين إلى فرنسا. أحد هؤلاء كان داعية الدوحة يوسف القرضاوي المرتبط بجماعة «الإخوان المسلمين» وهبوبها الأخير مع نسائم ما يسمى بـ«الربيع العربي». أما قطر فقد أجلّت خطتها لإنشاء صندوق بـ50 مليون يورو لـ«دعم الاستثمارات» في الضواحي الفرنسية إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الفرنسية، بعدما قادت بالاشتراك مع الساركوزية حملة «الناتو» في ليبيا.
وهنا يجدر التساؤل حول طبيعة العلاقة التي ستربط اشتراكيي فرنسا بالتوجهات «الربيعية» للسياسة الأميركية - الخليجية في المنطقة، والتي لا تمرّ بلا تأثير على «مسلمي» فرنسا. فهل سيحدث هولاند قطيعة مع خط «محرر ليبيا» في السياسة الخارجية، أم سيزيد من تعميقها لتصل إلى مصليات فرنسا؟
مرساله إلى الدوحة لوران فابيوس، وقوله إن «الدبلوماسية القطرية تصب في اتجاه السلام والاستقرار»، يشيان برجاحة الاحتمال الثاني.

امرأة فرنسية مسلمة تصوت في الضفة الغربية