في مقر أحد الأحزاب السياسية العديدة في تونس يصور أحد الملصقات المخاوف التي تدفع الناس للعودة الى الشارع. فهو يصور امرأة في مظاهرة وهي تحمل لافتة تقول .. الشهداء لم يموتوا من أجل ديكتاتورية جديدة.
فبعد تسعة أشهر من الانتفاضة الشعبية التي أطاحت بالرئيس زين العابدين بن علي وأوقدت شرارة انتفاضات أخرى في أنحاء العالم العربي يخشى التونسيون أن التغييرات التي ناضلوا من أجلها بدأت تتلاشى.
ويفخر معظم سكان هذا البلد الذين يبلغ عددهم عشرة ملايين نسمة بأن ثورتهم امتدت الى بقية أنحاء المنطقة ويرغبون في تقديم نموذج يُحتذى لانتخابات ديمقراطية في أكتوبر تشرين الاول. لكن كثيرين يخشون من أن أنصارا لبن علي مازالوا في مواقع في السلطة وأنهم يعملون خلف الكواليس لعرقلة التغيير الحقيقي. وهم قلقون أيضا لان انقساماتهم -لا سيما تلك المتعلقة بدور الاسلام- قد تزعزع التحول الديمقراطي وتترك المشكلات الاقتصادية التي ساهمت في إشعال الانتفاضة بدون حل.
وهناك ظروف مشابهة في مصر حيث أرجأ المجلس العسكري -الذي تولى السلطة بعد الاطاحة بالرئيس حسني مبارك- الانتخابات في أكبر بلد عربي من حيث عدد السكان. ويخشى بعض المصريين أن يكونوا قد استبدلوا ديكتاتورية بأخرى.
وفي ليبيا مازالت الفرحة بدخول طرابلس تملأ الأجواء حتى وان كان معمر القذافي فارا من قبضة المعارضة المسلحة حتى الان. لكن حتى في ليبيا هناك شعور بالارتياب فيما سيأتي بعد ذلك.
لكن الليبيين لديهم على الاقل ما يبعث على الأمل. أما في البحرين فقد أخليت الشوارع من المحتجين واعتقل المئات ولم يتحقق أي تقدم في الاصلاحات الموعودة. ومع استمرار العنف في بلاد مثل سوريا واليمن يسود في تونس شعور بأن الربيع العربي يجب أن يثبت أنه قادر على فعل ما هو أكثر من خلع الزعماء.
وبعد اغلاق الباب على أجواء صاخبة في مقر حملته الانتخابية قام الناشط السياسي التونسي المخضرم ورئيس حزب المؤتمر من أجل الجمهورية منصف المرزوقي باستعراض الاخطار.
وقال الطبيب الذي يضع نظارة "نحن في مرحلة انتقالية .. المشكلة أنني أخشى أن تستمر هذه المرحلة الانتقالية وقتا طويلا وتكون أصعب مما نتوقع.
"الناس هنا يعتقدون أن الثورة هي كبسة زر تنقلك من الظلمة الى النور لكن الامر ليس بهذه البساطة ... هل سننشئ دولة جديدة برئيس جديد وحكومة جديدة وبرلمان.. مازالت هناك علامة استفهام هنا .. وهذه صعوبة المرحلة الحالية .. قلة الوضوح."
ومنذ أن فر بن علي الى منفاه في السعودية في 14 يناير كانون الثاني سجلت السلطات التونسية أكثر من 100 حزب. وكانت الاحزاب العشرة الكبرى التي تتنوع بين الاسلاميين والليبراليين المنادين باقتصاد السوق والشيوعيين موجودة بثياب مختلفة قبل الثورة.
وليس بين الاحزاب الصغيرة الجديدة الا حفنة فقط لديها فرصة في إحداث تأثير في الانتخابات ومن المرجح اندماج معظم هذه الاحزاب أو اغلاقها. لكن مما أثار استياء كثير من التونسيين أن اثنين من المسؤولين البارزين في حزب التجمع الدستوري الديمقراطي المنحل -وهو حزب بن علي- أسسا حزبين ويخططان للترشح وأحدهما هو كمال مرجان وزير الخارجية السابق.
ووفقا لمزاعم حزب التجمع الدستوري الديمقراطي فان عدد أعضائه بلغ مليوني عضو قبل الثورة. وكثير من هؤلاء ربما انضموا الى الحزب لتسهيل الحصول على خدمات أو وظائف لكن بعضهم مازال له مصالح يحميها أو يرتبط بشخصيات من النظام السابق برابطة الدم أو الزواج أو محل الميلاد .
وقال مرزوقي "انهم وقحون ويجب أن يكونوا جميعا في السجن ... أتمنى أن يعاقبهم الشعب التونسي في الانتخابات القادمة ويعطيهم صفرا."
وأضاف "لكنهم قد يراهنون على المال أو العصبيات المحلية وهذا قد يمثل خطرا لان الشباب لن يقبلوا عودتهم مطلقا واذا فازوا في الانتخابات ... سنشهد ثورة جديدة."
وأظهرت ثلاثة استطلاعات للنوايا التصويتية أن أكثر من نصف الناخبين التونسيين لم يقرروا بعد كيف سيدلون بأصواتهم. وحتى الان لا يزال تأييد رموز النظام السابق أضعف من أن يظهر في الاحصاءات. ويقول سياسيون ان بن علي خلق فجوة بينه وبين الناس من جميع فئات المجتمع وهو ما قوض قاعدة شعبيته بمرور الوقت.
لكن سامح التويتي (25 عاما) الذي شارك في الاحتجاجات ضد بن علي قال انه مازال يخشى أن يبقى رموز النظام السابق وزمراتهم الفاسدة في السلطة في ثياب أحزاب جديدة.
وقال التويتي وهو يحتج في وسط العاصمة التونسية على قرار محكمة بالافراج عن عضو في الحكومة السابقة ان الحكومة المؤقتة منحت بقايا النظام السابق رخصا لانشاء أحزاب سياسية. وأضاف "انه النظام السابق في ثوب جديد."
وحتى اذا لم يتمكن النظام السابق من العودة فمن المرجح أن يظل الوضع السياسي ملتبسا.
وسيدلي التونسيون بأصواتهم لاختيار الاحزاب التي ستشارك في جمعية تأسيسية لكتابة دستور جديد.
والخلاف بشأن العناصر الرئيسية للدستور محدود. فمعظم التونسيين يتفقون على أنه لا بد أن يضمن التعددية الحزبية وحرية التعبير واستقلال القضاء. ويجب أيضا أن يكرس ضوابط السلطة السياسية عن طريق الفصل بين السلطة التنفيذية والسلطة التشريعية. وقد أرجئت الانتخابات الرئاسية مما يسمح للجمعية التأسيسية بدراسة تقليص سلطات الرئيس وتخويل الحكومة مزيدا من السلطة.
لكن مازالت هناك انقسامات جوهرية يتعلق معظمها بهوية البلاد.
وكان الحبيب بورقيبة بطل الاستقلال التونسي وأول رئيس للبلاد قوميا علمانيا اشتهر عنه وصفه للحجاب بأنه "خرقة بغيضة". ويحظر الدستور التونسي الحالي تعدد الزوجات ويكفل حقوق المرأة في الطلاق والزواج وهو ما يجعله أحد الدساتير الاكثر تقدمية في العالم العربي. لكنه أيضا يعرف تونس بأنها دولة لغتها العربية ودينها الاسلام.
ويريد بعض العلمانيين إلغاء هذه المادة قائلين انها مجحفة في حق الأمازيغ التونسيين والطائفة اليهودية الصغيرة في تونس. لكن حزب النهضة الاسلامي الذي كان محظورا في عهد بن علي يصر على بقاء تلك المادة. وفي محاولة لتهدئة المخاوف من أن هذه المادة قد تفتح الطريق لتأثيرات دينية أقوى على الحكومة قال زعيم حزب النهضة ان الحزب لن يسعى لتغيير قانون الأحوال الشخصية الذي يضمن حقوق المرأة ويدافع عنه العلمانيون بحماس.
لكن هناك شكوكا كامنة لدى كلا الجانبين.
ويقول أنصار النهضة ان الأغلبية الساحقة من التونسيين مسلمون وان البلاد ينبغي أن تعكس تقاليدهم بدلا من أن تكبتها. ويرى العديد من التونسيين الذين سئموا الفساد المستشري في عهد بن علي أن حزب النهضة يمثل عودة الى قيم رجعية.
وقال سائق سيارة أجرة شاب أقر بأنه لم يكن مهتما بالسياسة قبل الثورة "سأصوت للنهضة ... انهم صادقون فيما يبدو... سيضعوننا على الطريق الصحيح."
لكن التونسيين العلمانيين يخشون من أن النهضة ربما يقول شيئا في العلن ويقول شيئا آخر لأنصاره.
سفيان شرابي صحفي شاب ومدون نظم أحد الاحتجاجات السياسية الاولى في العاصمة التونسية في ديسمبر كانون الاول الماضي. وكان لقاؤه صعبا لان العديد من المطاعم والمقاهي كانت مغلقة في شهر رمضان. وهذا تطور جديد. ففي الماضي كان عدد أكبر من المطاعم والمقاهي مفتوحا خلال رمضان. ويقول أصحاب المطاعم الان انهم يخشون هجمات من اسلاميين سلفيين متشددين يريدون إقامة دولة إسلامية.
واتهم السلفيون -الذين كان نظام بن علي يقمعهم- في يوليو تموز بتدبير هجوم على قاعة سينما تعرض فيلم "لا الله لا سيد" للمخرجة نادية الفاني وهي أحد المنتقدين للاسلام السياسي. ومازالت الحركة صغيرة وضعيفة نسبيا لكن آلة الشائعات التونسية تنشر كثيرا من الاقاويل عن أحدث جهودهم لتفريق المصطافين وشاربي الجعة (البيرة) في البلد الذي تشكل السياحة فيه مصدرا رئيسيا للدخل وتوفر فرص عمل لنحو 400 ألف شخص.
وقال شرابي وهو يرشف ماء باردا في مقهى متواضع بالقرب من شارع بورقيبة المزدحم في وسط العاصمة التونسية "هناك انقسام في المجتمع بين أولئك الذين يدعمون الحركة الاسلامية وأولئك الذين يدعمون الحركة العلمانية لكن الوقت ليس مناسبا لهذه المعركة وقد تعوق الجهود الرامية لتحقيق الهدف الرئيسي في التخلص من النظام المستبد."
ولان العديد من التونسيين لم يقرروا حتى الان لمن سيصوتون فان هناك تفاوتا في تقدير النتائج التي سيحققها حزب النهضة في الانتخابات.
وأظهر استطلاع نشرته وكالة انساميد في مارس اذار أن 29 بالمئة يعتزمون التصويت لصالح الحزب بينما أظهر استطلاع أجرته شبكة الجزيرة في يوليو تموز أن شعبية الحزب تبلغ 21 بالمئة. وتوقع استطلاع انساميد أن يأتي الحزب الديمقراطي التقدمي -الذي يقوده أحمد نجيب الشابي والذي كان حزبا شرعيا في عهد بن علي الذي سمح له بمشاركة محدودة في السياسة- في المرتبة الثانية بنسبة 12.3 بالمئة. وتوقع استطلاع الجزيرة حصول الحزب على ثمانية بالمئة.
وقد تتفوق الاحزاب العلمانية مجتمعة على حزب النهضة لكن أنصارهم موزعون على مناطق عدة. ويقول دبلوماسيون غربيون انهم مرتاحون للامر لان حزب النهضة تعهد بالالتزام بالديمقراطية.
وقال دبلوماسي "انهم داخل المظلة السياسة وهذا أفضل من أن يكونوا خارجها. يقولون انهم يقبلون بالنظام السياسي ولا نرى سببا للشك في ذلك."
وأضاف "هناك اتهامات بأن النهضة يطرح خطابا مزدوجا .. لكن العديد من السياسيين يقولون شيئا لانصارهم وشيئا اخر للشعب."
ويقول سياسيون ومحللون ان من المرجح أن تواجه العملية الانتخابية تهديدا أكبر من مصادر أخرى من بينها بقايا حزب التجمع الدستوري - الذين يقاومون الاصلاحات التي مازالت قيد التنفيذ- أو الجيش اذا رأى أن حزب النهضة أصبح أقوى من اللازم وأصبح يهدد الطابع العلماني للبلاد.
وهذا تحديدا ما حدث في الجزائر المجاورة التي تتعافى من صراع استمر نحو عشرين عاما بين قوات الامن والاسلاميين أودى بحياة حوالي 200 ألف شخص.
ويخشى كثير من التونسيين تكرار ما حدث في الجزائر في بلادهم رغم أن نظام التمثيل النسبي الجديد يحول دون استئثار حزب واحد بالأغلبية.
إذن كيف يمكن أن يكون تسجيل الناخبين في مهد الربيع العربي بطيئا الى هذا الحد.. فحتى 14 أغسطس اب لم يسجل سوى نصف التونسيين أسماءهم في القوائم الانتخابية. ولم يحدث هذا الا بعد تمديد المهلة المحددة أسبوعين وفتح مراكز التسجيل في الليل وخلال العطلة الاسبوعية. ولم تفلح حملة تلفزيونية تشرح لماذا وكيف أن الانتخابات مهمة في تسريع وتيرة التسجيل.
ويقول سياسيون ان العملية الاصلية كانت مربكة للغاية اذ كانت تستوجب التأكد من امتلاك الناخبين لبطاقة هوية محدثة يتعين عليهم تسجيلها في المكان الذي يعتزمون التصويت فيه. وبعد ذلك قالت لجنة الانتخابات التي أقلقتها البداية البطيئة انه يمكن للتونسيين أن يدلوا بأصواتهم باستخدام بطاقات الهوية القديمة.
واذا كانت نسبة المشاركة متدنية فان ذلك سيقوض شرعية الجمعية التأسيسية ويعرض الدستور الذي ستكتبه للهجوم. لكن استطلاعا للرأي أجرته المؤسسة الدولية لنظم الانتخابات في مايو ايار أظهر أنه بالرغم من الارتباك فان الاغلبية الساحقة من التونسيين يعتزمون الادلاء بأصواتهم.
وفي الفيلا البيضاء التي يقع فيها مقر الحزب الليبرالي المغاربي الجديد يقول محمد بو عبدلي ان التونسيين يجب أن يصوتوا على مسألتين في 23 أكتوبر تشرين الاول .. الحزب الذي يختارونه وما اذا كان يجب تحديد مدة تفويض الجمعية التأسيسية بما لا يزيد على عام.
ويقول بو عبدلي ان هذه المدة المحددة ستضغط على الاعضاء المنتخبين لتجاوز خلافاتهم واجراء انتخابات جديدة لاختيار مجلس تشريعي بفترة كاملة.
وقد اختلف بو عبدلي الذي يمتلك سلسلة من المدارس والكليات الخاصة مع بن علي وكتب كتابا ينتقد فيه الديكتاتور السابق قبل فترة وجيزة من اندلاع الثورة. وقال ان بناء ديمقراطية في تونس سيستغرق وقتا.
وقال بو عبدلي وهو ينحني على مقعده الى الامام وهاتفه المحمول يرن على المكتب خلفه "تحتاج 30 سنة لتصبح ديمقراطية حقيقية. التونسيون لمدة 55 عاما لم يعرفوا معنى التصويت. سواء صوتوا أم لم يصوتوا .. لم يكن هناك فرق .. تكون النتيجة 120 بالمئة مثل كل البلدان العربية.
"الان لدينا أحزاب عديدة وهذا مؤشر صحي."
من لين نويهض

تونس مهد الربيع العربي