إن التوصل إلى 90 في المائة من أسرار الجينوم أو الأطلس الوراثي الذي يعتبر أول مسودة لخريطة شبه كاملة للمخزون الوراثي عند الإنسان يعد انجازا علميا كبيرا.
وقد وصفه الرئيس الأميركي بيل كلينتون بأنه أهم الاكتشافات العلمية في التاريخ ويكاد يكون بأهمية الانشطار النووي والانطلاق إلى القمر.
ومثلما تقاتل المغامرون للاستحواذ على ذهب كاليفورنيا تسابقت شركات التقنيات الحيوية العلمية لوضع "علامات تحذيرية" لمنع التدخل في ميادين نشاطاتها في مجال الجينوم وهو الأطلس الوراثي البشري.
وقد سارعت الشركات للحصول على براءات اختراع للمورثات التي اكتشفتها بهدف جني الأرباح الطائلة من عائدات العقاقير والطرق العلاجية المقبلة التي تعتمد على أبحاث المورثات البشرية ووظائفها.
وحول الجينوم قال دكتور البيولوجيا الجزئية في معهد الكويت للأبحاث العلمية الدكتور جعفر عبد الرضا قاسم لوكالة الأنباء الكويتية "كونا" " أن مشروع الجينوم بدأ في أول تشرين الأول/اكتوبر 1990 كمشروع علمي مشترك بين الدول الكبرى وهي الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا وألمانيا واليابان والصين ".
وأضاف أنه يهدف إلى التعرف على التركيب الوراثي لنحو 80 إلى مائة ألف جين والتي تلعب دور الآمر والناهي داخل جسم الانسان والمسؤولة عن إنتاج وتركيب البروتينات التي يتكون منها الكائن الحي، كما أنها يمكن أن تكون مصدرا للعديد من العلل والأمراض.
ومن أجل فهم أسرار الجينات وطريقة عملها ووظائفها قام مئات العلماء من 18 دولة في العالم من بينها إسرائيل وليس بينها بلد عربي واحد، بوضع حجر الأساس لمشروع عالمي عرف بإسم "مشروع المخزون الوراثي البشري" وبتمويل مشترك من وزارة الصحة والطاقة في الولايات المتحدة الأميركية مع إسهام من صندوق "ويلكوم" لدعم وتنسيق الجهد الدولي بمشاركة كل من ألمانيا وفرنسا وبريطانيا واليابان واستراليا والبرازيل والصين والدنمارك والإتحاد الأوروبي وإيطاليا وكوريا والمكسيك وروسيا وهولندا والسويد وإسرائيل بدرجة أقل.
ويذكر الدكتور جعفر "أن المشروع يهدف إلى التعرف على التركيب الوراثي الكامل والشيفرة الجينية للإنسان ويشمل ذلك نحو 80 إلى 100 ألف جين يتضمنها ثلاثة بلايين تتابع لأحماض الوراثة كما يرمي المشروع إلى بناء قاعدة بيانات علمية وجعلها متاحة على الإنترنت للجميع، ويشدد على أهمية ملاحظة الجوانب الأخلاقية والإجتماعية والقانونية الناتجة عن هذا الجهد العملي".
وكان مشروع الجينوم قد بدأ عبر سلسلة ندوات ومؤتمرات عقدت في منتصف الثمانينات بمبادرة من روبرت سيسنهايمر من جامعة كاليفورنيا للتكنولوجيا وتشارلز ليزي في وزارة الطاقة الأميركية.
وشهد عام 1983 أول قاعدة بيانات جينية عرفت باسم "جيناتيك " وتعد الجذر الأول لقاعدة بيانات الجينوم وأنجز المشروع دراسة التركيب الوراثي لعدد كبير من الفيروسات والجراثيم كتلك المسببة للسل والانفلونزا، وانتقل إلى تفكيك شيفرة كائنات أكبر مثل الخميرة وذبابة الفاكهة.
ويتابع الدكتور جعفر حديثه مع "كونا" بقوله أن الجسم يتكون من نحو مائة تريليون خلية، وثمة نواة في كل خلية ما عدا كريات الدم الحمراء، وكل نواة تحتوي على 46 كروموزوما وراثيا مصطفة في 23 زوج من الكروموزومات، وكل زوج كروموزومي يتشكل من اتحاد الوالدين. ويضيف الدكتور جعفر أن كروموزومات الوراثة مملوءة بكثافة بحامض (دي.ان.ايه) السلم اللولبي المزدوج، أما الجينات فهي تجمعات من مادة (دي.ان.ايه) تحمل المعلومات اللازمة لبناء البروتينات وهي تمثل العناصر الأساسية للحياة.
ويضيف الدكتور جعفر أن الشفرة الجينية للحمض النووي (دي.ان.ايه) تتكون من ثلاثة مليارات وحدة في كل من خلايا الجسم البشري والتي يبلغ عددها 100 تريليون خلية والتريليون يساوي ألف مليار. وإذا صفت جميع مكونات الحمض النووي في جسم الإنسان صفا واحدا فإن هذا الصف يساوي المسافة بين الأرض والشمس 600 مرة. ويقول الدكتور جعفر أن المعلومات الخاصة بشفرة الحامض النووي يمكن ان تملأ 200 كتاب بحجم دليل الهاتف يتكون كل منها من 500 صفحة.
ويتألف الحمض النووي (دي . ان . ايه) من سلسلة من مركبات الفوسفات والسكر الخماسي على التعاقب من أربع قواعد نيتروجينية في صورة تباديل وتوافيق وتحمل هذه الوحدات الأربع الأساسية في الشفرة الجينية الارشادات اللازمة لتكوين أي كائن حي. ويقول د. جعفر أنه يوجد في الجسم 20 حمضا أمينا مختلفا تعتبر بمجملها اللبنات الأساسية لبناء جسم الإنسان وهي تستخدم في سلسلة من التكوينات لإنتاج مختلف البروتينات بدءا من من الكيراتين الموجود في الشعر إلى الهيموجلوبين في الدم.
تأثير الجينوم يتعدى الإنسان
ودراسة الجينوم أو الخارطة الوراثية ليس محصورة بالحياة البشرية وحدها بل تتعدى هذا الحقل إلى الحيوانات والنباتات. وقد انتهت مجموعة علمية أميركية من وضع الخارطة الوراثية لنبتة الأرز الأكثر تعقيدا بين النباتات والتي أصبحت أولى الحبوب التي يتم فك رموزها الوراثية، وترتيب رموز كروموزوماتها الإثنى عشر، ووضع قائمة بـ430 مليون قاعدة يتألف منها حمضها النووي.
ومن المعروف ان الأرز يشكل غذاء أساسيا لأربعين في المائة من سكان العالم، وهذا الإنجاز سيسرع في وضع الخارطة الوراثية لباقي الحبوب مثل القمح والذرة بما يسهل إنتقاء الأنواع الأكثر فائدة. ويضيف الدكتور جعفر أنه "باكتشاف الجينوم يمكننا التنبؤ بعد ذلك بالطقس داخل الجسم البشري، فالعلم في السابق لا يعرف وظائف كل جين. والتحدي الآن هو ترجمة علمية دقيقة لتتابع قواعد الحمض النووي إلى فوائد محسوسة تنفع الإنسان لا سيما في حقل الطب، فلكل الأمراض مكون وراثي سواء كانت أمراضا وراثية أو ناتجة عن استجابة الجسم للظروف البيئة المحيطة به، وبالتالي يترتب عليه تشخيص أدق للأمراض وتوصيف أسرع للـ (دي.ان.ايه)، فالهدف في النهاية هو الوقاية من الأمراض التي تصيب البشر".
ويؤكد الدكتور جعفر "أن مرض السرطان هو أحد أشد الأمراض فتكا في العالم ولكن استكمال رسم الخريطة الجينية الموحدة لمعظم الشفرات الوراثية للإنسان سيكون له أثر كبير على المعركة ضد هذا الداء خاصة وأن السرطان مرض بارع في استخدام مادة (دي.ان.ايه) والعبث فيها – (البوابة).